خطابات الرئيس وتجويع الفقراء
كيف تنجو من الاعتقال في مصر؟ سؤال يراود الجميع، ويطرح على نقاشات في جمع، لا سيما المغتربين الذين تتعرض غالبيتهم لفحص أمني مضاعف، عند منافذ الدخول والخروج. الحل ليس بسيطاً ولا يستطيع أحد أن يطبقه، فما هو ذلك الحل الذي ربما يستفيد منه شخص ما وينجو بنفسه بخلاف الآخرين.
بالأمس القريب أعلنت الحكومة نيتها رفع سعر الخبز المدعوم من 5 إلى 20 قرشا، وإذا أردت أن تنجو فلا تتحدث عن تداعيات ذلك القرار وتأثيره على الفقراء، فالتهمة لن تكون "حديث عن الخبز"، بل ستكون "الانتماء لجماعة محظورة، وترويج إشاعات تضر بالأمن والسلم العام للمواطنين"، وربما تصل لوضع اسمك مع آخرين اعترضوا على أسعار الأرز "مثلاً" في قضية قلب نظام الحكم.
هذه التهم تلاحق الشاكين من ارتفاع الأسعار، وذلك ليس افتراضا أو توقعا ولكن السجون تعج بآلاف من هؤلاء، الذين لم ينتموا يوما إلى جماعة سياسية، وكان أغلبهم مؤيداً للمشير عبد الفتاح السيسي عندما تولى الحكم. منذ بداية العام كثفت السلطات المصرية حملتها ضد من يعبرون عن همومهم الاقتصادية ويشتكون من الأزمة المعيشية التي أثقلت كواهلهم، فأصبحت الشكوى من ارتفاع أسعار الوقود أو الخبر، أو انقطاع الكهرباء جريمة يعاقب عليها القانون.
كيف انقلب هؤلاء على منقذهم، كما سموه سابقاً، ولمَ لم يرحمهم ما قدموه من تأييد وهتاف للسيسي وفريقه منذ 10 سنوات؟ تقول منظمة العفو الدولية إن السلطات المصرية تترصد المحتجين، والعمال المضربين، والأشخاص الذين يعبّرون عن آرائهم على الإنترنت إزاء كيفية تعامل السلطات مع الأزمة الاقتصادية، وكل جريمتهم هي منشور على منصة من منصات التواصل، صرخوا خلاله وقالوا "لقد سئمنا.. ارحمونا من الغلاء".
هؤلاء لم ينظموا تظاهرة، أو وقفة احتجاجية أمام مقر الرئاسة الذي بعد كثيراً إلى العاصمة الإدارية الجديدة، ولم يطالبوا برحيل السيسي، ولم يتجرأ أحدهم على ذكر انتخابات رئاسية جديدة، جل ما طالبوه هو عدم التمادي في زيادة أسعار الكهرباء، والوقود، والتدخل لخفض أسعار الغذاء.. جميع مطالبهم مشروعة حتى لو بلغت للمطالبة بانتخابات رئاسية جديدة، ورحيل السيسي وفريقه.
منذ بداية العام، وثّقت المنظمات الدولية حالات اعتقال واحتجاز تعسفيين لأفراد في محافظات عدة اشتكوا من ارتفاع الأسعار في تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي
منذ بداية العام، وثّقت المنظمات الدولية حالات اعتقال واحتجاز تعسفيين لأفراد في محافظات عدة اشتكوا من ارتفاع الأسعار في تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، واستجوبت عشرات العمال من شركة تابعة للقطاع العام، طالبوا بدفع الحد الأدنى للأجور، بينهم من لا يزال محتجزا تعسفيًا، وفضّت قوات الأمن مظاهرة في مارس، واعتقلت متظاهرين ألقوا باللوم على الرئيس عبد الفتاح السيسي في "تجويع" الفقراء.
الأزمة الاقتصادية المستمرة في مصر دفعت الملايين لتوجيه غضبهم للحكومة والرئيس، الذي يرى بحسب خطابه في سبتمبر 2023 - أن الجوع والحرمان تضحيات مقبولة في سبيل التنمية والتقدم، ولذلك يتعامل مع صرخات الألم بكل قسوة، دفعت العالم لانتقاد الملف الحقوقي والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين من الصحافيين والحقوقيين والنشطاء والمدونين والمواطنين العاديين، الذي أعلنوا عن إحباطهم تعامل الحكومة مع الأزمة الاقتصادية".
وحقيقة من المقبول أن يتحمل الفرد الظروف الصعبة، ولكن ينقلب ذلك إلى النقيض، عندما يرى صرف بدلات ورواتب بآلاف الدولارات لمستشارين في جهات حكومية، ويشاهد يومياً مواكب مسؤولين بها عشرات السيارات تكلف ميزانية دولة فقيرة، بحسب تصريحات السيسي، ملايين من الجنيهات، هنا ينقلب الصبر إلى جزع، والرضا إلى سخط، والهدوء إلى عاصفة أطاحت بحكم تليد من قبل.
وجدير بالذكر، أن مصر لديها عدد من السفارات في الخارج يزيد على عدد سفارات الولايات المتحدة، وذلك يكبد الملايين من الدولارات شهرياً التي تنفق رواتب ومكافئات وحوافز وخلافه، ولنا فيها مقال مفصل.
العالم يمر بأزمة اقتصادية والتوترات التي تشهدها المنطقة بالتزامن مع الحرب في أوكرانيا ومن قبل الجائحة، تستوجب اتخاذ إجراءات تقشفية، ولكن لا يوجد حكومة تنال رضا كاملاً، فالانتقادات ظاهرة صحية، ولكن في مصر غير مقبول تناول أخبار الأسعار ونسب التضخم التي يعلنها الجهاز "المركزي للتعبئة والإحصاء"، ويصبح المواطن في خطر إذا أعاد نشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، وينقلب همه من غلاء المعيشة إلى سجن موحش قد يمكث فيه طويلاً.