خريف الثورة مستمر
بعد ربيع ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، والأمل الذي أوجده رحيل نظام حسني مبارك في صدور الملايين، لم يكن أحد يتخيل أن خريف الثورة سيدوم سنوات وسنوات.. الآلاف من الشباب والرجال والنساء والأسر بل والأطفال، يعيشون في منفى اختياري، هاربين من مصير أسود يلاحق كل صاحب فكر أو قلم أو رأي، الأمر الذي حول تلك السنوات إلى حقبة مظلمة يعيشها أبناء جيلي.
اختار هؤلاء أن يرحلوا ويتركوا وطنهم وأهلهم خشية البطش والسجن.. نجحوا في تأسيس حياة أخرى في أرض الله الواسعة، متحملين ضنك العيش وحواجز اللغة والثقافة، وغيرها من سلبيات هي أهون في أعينهم عن جحيم المعتقلات ذات الأرضيات الباردة والجلاد ذي القلب الأسود.
مرت السنوات واعتقد ذلك الجمع المتشتت أن حياتهم ستمضي هكذا بهدوء وليس عليهم إلا التحمل حتى يأذن الله بأمر جديد، لكن مع محاولات تجديد أولى وثائقهم التي انتهت، ومن قلب سفارة الوطن في منفاهم الاختياري، أخبرهم المسؤول أن وثائقهم لن يتم إصدارها وعليهم العودة إلى مصر، اكتشفوا أن هناك أزمة جديدة يدفعهم النظام إليها، يضيق عليهم حتى يعودوا لسجنه.. أبى هؤلاء أن يتركوهم لآلامهم، فخياراتهم تضاءلت وأصبحوا في شوارع الغربة بلا هويات، أصبحوا مخالفين للأنظمة وملاحقين ليل نهار حياتهم شلت ولا خلاص، إما السجن أو حياة الأشباح بلا هوية.
في 17 سبتمبر / أيلول 2022 أطلق حزب الإصلاح والتنمية المصري مبادرة بعنوان "عودة آمنة للمصريين في الخارج" وذلك في محاولة لحماية هؤلاء الذين يتعرضون لتهديدات أمنية، كالاحتجاز التعسفي وسحب جوازاتهم، ومنعهم من السفر، وربما محاكمات تقضي بسنوات خلف القضبان.
المبادرة كانت تهدف إلى إحداث انفراجة نسبية في العلاقة بين الجهات الأمنية وشرائح كبيرة من المغتربين في مختلف دول العالم، ضمن مساعٍ لتخفيف الاحتقان الذي بلغ ذروته بين كثير ممن يتم استهدافهم دون دوافع قانونية.
خاطبهم رئيس الحزب محمد أنور السادات، الذي يعد من رموز العمل العام في مصر وله باع في المجال الحقوقي والنيابي قبل أن تنقلب عليه السلطة بعد مطالباته عندما كان عضواً في مجلس النواب، بكشف رواتب ومكافآت قادة الجيش المتقاعدين الذين يجرى تعيينهم في شركات القطاع العام بعد إحالتهم للتقاعد.
الأجهزة الأمنية في مصر توسع دائرة التعقب وتزيد من معاناة الشباب، فلا يعقل أن يتم وضع عشرات الآلاف من المصريين على قوائم الترقب وبالتالي إثارة الخوف في نفوسهم من العودة إلى بلادهم
والشيء بالشيء يُذكر، فتلك الواقعة كانت في برلمان 2017 الذي كان يترأسه علي عبد العال - أسوأ من اعتلى ذلك المنصب - وقتها اتُهم السادات الذي هو ابن شقيق الرئيس الراحل أنور السادات، بتزوير توقيعات نواب على مشروع قانون تقدم به إلى المجلس، وإرسال بيانات مترجمة إلى جهات ومنظمات أجنبية ومن بينها الاتحاد البرلماني الدولي تتضمن وتتناول أوضاعا داخلية للبرلمان المصري من شأنها الحط من قدر المجلس وصورته بحسب لجنة الشؤون الدستورية والتشريع التي خلصت إلى إدانته وإسقاط عضويته.
صاحبُ تلك المظلومية حاول حلحلة الوضع السياسي في مصر بمبادرة لم يؤمن بها أحد، رغم موافقة الجهات الأمنية، إلا أن المغتربين في الخارج لم يشعروا بالأمان، فتلك الجهات غير ملزمة بتطبيق بنود المبادرة، فماذا لو عاد ذلك المطارد الذي لم يأتِ ذكر اسمه في قضية، ولم ينتمِ إلى جهات أو جماعات بالمخالفة للقانون، واستقبله رجال الأمن في مطار القاهرة وذهبوا به إلى غياهب السجون، هل سيتدخل صاحب المبادرة ويسعى لإنقاذه؟ لا أقلل من محاولات العودة الآمنة لكني أطرح سؤالاً فحسب.
بعد أكثر من عام على ذلك النداء، ارتفعت أعداد هؤلاء العاجزين عن العودة إلى بلادهم وانضم إلى صفوفهم المئات والمئات، فالأشخاص الذين انتهت جوازات سفرهم رفضت سفارات مصرية في كثير من الدول تجديدها، مطالبة هؤلاء بالعودة لمصر دون إبداء أي أسباب لذلك التعنت الذي يخالف القانون ويهدد حياة الكثيرين.
الأجهزة الأمنية في مصر توسع دائرة التعقب وتزيد من معاناة الشباب، فلا يعقل أن يتم وضع عشرات الآلاف من المصريين على قوائم الترقب وبالتالي إثارة الخوف في نفوسهم من العودة إلى بلادهم، لا سيما أنّ كثيرين ممن عادوا لم يُقتفَ لهم أثر، والبعض الآخر ظهر بعد شهور من الاختفاء، وأصبح متهماً في قضية لا يعلم عنها شيئاً، والسبب تغريدة أو منشور على مواقع التواصل الاجتماعي أو حديث ذكر فيه القيادة بسوء معبراً عن غضبه في وقت ما.
ذلك النهج الذي يتبعه النظام يفاقم أزمة المواطنين، فبعيداً عن الأعباء الاقتصادية التي تثقل كاهلهم وتجعلهم عاجزين عن تلبية مطالبهم واحتياجاتهم الأساسية، أصبح هناك عبء جديد يتمثل في مخاوف الإخفاء القسري، والتدوير (استمرار التوقيف بقضية أخرى بعد انتهاء أجل التوقيف في قضية) في قضايا، جميعها، سياسية، لا سبيل للخروج منها، فبعضها يستمر سنوات وسنوات دون إدانة أو براءة.