حيلة أبي الفتح الإسكندري المتجددة
أتعرفون حكاية المصري النصّاب في الكويت؟ وعلاقته ببديع الزمان الهمذاني؟
يُحكى أنّ مصريًا من الإسكندرية من بلدة عين الزيت، قد فتح مكتبًا بالكويت يريد به (كذبًا) مساعدة الناس على اجتياز اختبارات القيادة، رغم البلادة. حيث زعم صاحبنا منه أنه صاحب علاقات في المرور، ولهذا لن يحمل المُمتحَن هَم العبور، حيث يأتيه المُمتحَن البليد فيدفع له نصف المبلغ المقرّر ويدخل الامتحان يتغندر. فإن كان سائقًا جيدًا ونجح، رجع وبعينه الفرح، يشكره بالمدح والمرح، ظانا أنّ صاحبنا الإسكندري قد ساعده، رغم أن صاحبنا لم يُحرِك ساعِده. وإن رسب، يأتيه بجفنٍ قَرِح وقلبٍ منجرح، فيعتذر له صاحبنا بالتعليل المدروس، ويُرجع له ما دفع من فلوس.
وصاحبنا هذا ليست له علاقات ولا أفانين، لكنه لا يخسر في الحالين. لكن ما علاقة ذلك ببديع الزمان الهمذاني؟
يحكي بديع الزمان، حكاية شبيهة، على لسان عيسى بن هشام، في المقامة النصبية المسماة الحرزيّة، أنه لما بلغت به الغربة باب الأبواب، ورضى من الغنيمة بالإياب، فقد اكتفى من جمع الأموال بأسفاره، وقرّر العوده إلى داره. ركب البحر، حتى إذ أقلعت السفينة، وبعدوا عن المدينة، وأحاطهم البحر من كلّ ناحية وتسامر الركاب في الزاوية، بانت في الأفق غيمةٌ سوداء تعوي، وسكن كل راكبٍ في ركنه يدعي، حتى دخلت السفينة بقلب العاصفة، وتطوّحوا في كلّ ناحية، وكُبكب الكلّ فوق بعضهم كالجرذان وتقاذفوا كالصبيان. كما مدّت السحب الأمطار كالحبال، وعلت الأمواج كالجبال، وهبت ريحٌ ترسل الأمواج أزواجا، والأمطار أفواجا. وأصبحوا يتباكون ويتشاكون إلى أن لاحظوا أنّ بينهم رجلًا لم يخضلّ جفنه، ولم تبتل عينه، رخيّ الصدر منشرحه، نشيط القلب فرحه.
أصبحوا يتباكون ويتشاكون إلى أن لاحظوا أنّ بينهم رجلًا لم يخضلّ جفنه، ولم تبتل عينه، رخيّ الصدر منشرحه، نشيط القلب فرحه
تعجبوا من حاله أشدّ العجب، فسألوه عن السبب، ما الذي أمّنك العطب؟ لماذا ونحن مرتجفون، أنت مأمون؟ إن هذا لهو العجب.
فقال لهم إنّ بجعبتي حِرزًا ثمينا، ورثته عن الآباء، لا يغرق صاحبه لو قُذف بقلب الماء، فشهقوا أجمعين: "أو جربته يا لعين"، قال: "جربته في خمسة أسفار، غرقت السفينة العرجاء، ويحملني الجن فوق الماء".
تهافتوا عليه يريدون قطعة من الحرز الثمين، فقال: لن أفعل ذلك حتى يعطيني كل واحد منكم دينارًا الآن، ويعدني دينارًا إذا سلم وعام.
قال عيسى بن هشام: "فنقدناه ما طلب، ووعدناه ما خطب. فأخرج من جيبه قطعة ديباج، فيها حقة عاج، قد ضمّن صدرها رقاعا، وحذف كل واحدٍ منا بواحدة منها".
رحلت الغيمة السوداء، وسَلِمت السفينة الخشباء، ونزل الناس على الشاطئ يحمدون الله ويشكرونه، بعد أن نقدوا صاحبنا ما وعدوه. حتى جاء دور عيسى بن هشام، فقال له: "لك الدينار، لكن إن أخبرتني سرّ الأسرار". فضحك الرجل وقال: "ولو أنّي اليوم في الغرقى، لما كُلّفت عذرا،
يعني في كلّ الأحوال، لن أخسر، إن نجوتم فزت بالدنانير، وإن غرقتم فأنا أول المغادرين".
ضحك عيسى بن هشام، وسأله سؤالًا أخير، من أي بلاد الخير؟ فقال: "الاسكندرية، من بلدة عين الزيت".