حوارٌ مع صديقةٍ ألمانيةٍ: نرفض أن نكون أعداءً (6)
مقدمة المحرّر: يشكّل الموقف الألماني من الصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيلي مسألة غير مفهومة وإشكالية للكثيرين في العالم العربي، نظراً لخصوصية التاريخ الألماني في ما يتعلّق بما ارتكبه الحكم النازي ضد اليهود من محارق بشعة، مضافة إليها الترتيبات والسياسات الألمانية اللاحقة بعد سقوط النازية، في محاولة للتكفير عن هذا الماضي. هنا حوار سيُنشر على شكل سلسلة بين الدكتور حسام الدين درويش والناشطة الألمانية كورنيليا زِنغ، يطرح كلاهما وجهةَ نظره، بحثاً عن نقاط التقاطع، وفي محاولة جازمة وحازمة لرفض الصور النمطية عن الآخر، وتقبّل الاختلاف، والأهم محاولة الفهم بشكل عميق وحقيقي.
(يمكن قراءة الجزء الأول والثاني والثالث والرابع والخامس)
كورنيليا زِنغ: أوكيه. شكرا لإجابتك. سأستمر في وصف المجزرة بأنّها مجزرة، والإرهاب بأنه إرهاب، وانتهاك الحضارة انتهاك للحضارة. لا شيء يمنح الإنسان الحق في أخذ حياة شخصٍ آخر، لا التهجير والاحتلال ولا الحياة في "سجنٍ في الهواء الطلق" كما تقول. أليس من أكثر حقوق الإنسان أهميةً وأساسيةً ألا نقتل الشخص الذي بجانبنا؟ إلى أين يمكن أن نصل، إذا لم يعد هذا ساريًا؟
حوارنا جعلني أهتم بمعاناة الفلسطينيين، على الأقل، أكثر من ذي قبل. وقد تواصلت مع الجمعية الألمانية الفلسطينية واستمعت إلى محاضرات عبر الإنترنت لرئيسها نزيه مشربش، الذي يدّعي أنّ 60% من سكان غزّة لا يؤيدون حماس على الإطلاق، ويرفضون نظامها العنيف الاستبدادي والفاسد. هل تعتقد ذلك أيضا؟
هناك، أيضًا، فلسطينيون يتخذون طرقًا أخرى للتعامل مع إسرائيل. الفلسطينيون في الضفة الغربية، على سبيل المثال، والذين يعيشون في إسرائيل والذين يشكلون 20% من سكان إسرائيل. وعلى أيّ حال، فإنّ حالهم أفضل بكثير من حال الناس في غزّة. وهناك العديد من المحاولات "الصغيرة" للتعايش السلمي. وأوركسترا بارينبويم (الديوان الغربي الشرقي) على سبيل المثال، والمدارس العربية اليهودية. هجوم حماس لن يجعل الأمور أسهل بالنسبة لهم. فهل كانت نيّة حماس، أيضًا، تدمير مثل هذه المشاريع المفعمة بالأمل للتعايش؟
إذا كانت حملةٌ سلميةٌ، مثل حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات لا فائدة منها، فما الذي يجب عليهم فعله غير مهاجمة الناس في إسرائيل بوحشية وخبثٍ، كما تكتب أنت؟ لقد كنت أتساءل، لفترةٍ طويلةٍ، لماذا لا تستخدم حماس كلّ الأموال التي تنفقها على القنابل وبناء الأنفاق، لصالح شعبها، للتعليم والنظام الصحي، على سبيل المثال؟
كورنيليا زنغ: إنّ معركة حماس ضد إسرائيل هي، أيضاً، معركةٌ ضد "الغرب"، وضد الديمقراطيات في الغرب، وضد القيم التي يمثلها الغرب
جلبت هذه الحرب معاناةً لا نهاية لها للسكان. لا تقدم ولا تحسّن على الإطلاق! ولم يقوّهم إلا تضامن إيران وبوتين وأردوغان (الذي يقاتل حاليا في شمال سورية) والأسد. هل تريد حقا تضامنهم؟ هل تريد الانضمام إلى هذا التضامن؟ في شهر مارس/آذار، قمت، مع النساء، هنا، بالدعوة إلى "المرأة - الحياة - الحرية" للنساء في إيران، من أجل حقوق المرأة، في اليوم العالمي للمرأة. كيف يمكن أن أكون مع حزب الله، الآن؟ لا يدافع كبار السن، في الحكومة الإيرانية، عن حقوق الإنسان.
إنّ معركة حماس ضد إسرائيل هي، أيضًا، معركةٌ ضد "الغرب"، وضد الديمقراطيات في الغرب، وضد القيم التي يمثلها الغرب (والتي نادراً ما تترجم إلى عمل ملموس، كما هو الحال في سياسة اللاجئين). قال لي لاجئ سوريٌّ، هنا، ذات مرة: "لديكم قوانين جيّدة". علينا أن ندافع عنها! جنبًا إلى جنبٍ مع اللاجئين وجميع المهاجرين.
حسام الدين درويش: أرجوك استمري، وسأستمر معك، في وصف كلّ مجزرةٍ بالمجزرة، وكلّ إرهابيٍّ بالإرهابي، وكلّ انتهاكٍ للحضارة بأنه انتهاكٌ للحضارة. لكن أرجوكِ، لا تقتصري على فعل ذلك مع طرفٍ واحدٍ فقط، كما يفعل أصحاب الموقف الألماني الذين يرون الاحتلال الاستيطاني حضارةً، والمجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين دفاعًا مشروعًا عن النفس، في حين يعدون كل مقاومةٍ مسلحةٍ له انتهاكًا للحضارة وإرهابًا ومجزرةٍ. لا أظنني قد أختلفت معك في أي شيءٍ ذكرتِه عن حماس، بل سلَّمت بصحة كلّ أحكامك عليها. في المقابل، الاختلاف الرئيس بيننا هو في الموقف من إسرائيل، الدولة الفضيحة، التي ما زالت تحتل أراضي دولةٍ أو دولٍ أخرى وتقوم بزرع مستوطنين غريبين فيها، بلغ عددهم حتى الآن مليون مستوطن، وترفض عودة أكثر من ستة ملايين ونصف مليون لاجئ فلسطيني إلى بيوتهم وأراضيهم المسلوبة. بالإضافة إلى ذلك، ترفض إسرائيل فكرة أن يحظى الفلسطينيون بحق تقرير مصيرهم في دولةٍ مستقلةٍ خاصةٍ بهم. هل يهتم أصحاب الموقف الألماني بمثل هذه الحقائق والأرقام؟ بالقطع، لا يهتمون (كثيرًا) بذلك؛ فجلّ تركيزهم هو على إسرائيل بوصفها ضحية الإرهاب الفلسطيني. وأنت، نفسك، حين تتحدثين عن المجزرة والإرهاب وانتهاك الحضارة، تقصدين بالطبع حماس/ (بعض) الفلسطينيين، وترين، مع هابرماس والحكومة الألمانية، أنّ ذلك لا ينطبق على دولة إسرائيل بأي شكلٍ من الأشكال. ولهذا السبب، أنت ما زلت تركزين حديثك على حماس، بعد مضي أكثر من مئة يومٍ على ذلك الهجوم الذي راح ضحيته 1200 شخص تقريبًا، في حين أنك تلتزمين الصمت أو تحمّلين حماس نفسها مسؤولية قتل إسرائيل لأكثر من 25 ألف فلسطيني خلال هذه المدّة، معظمهم من الأطفال والنساء والأشخاص المدنيين، بالإضافة إلى جرح عشرات الآلاف من المدنيين، وتهجير حوالي مليوني شخصٍ مدنيٍّ، ومنع أبسط متطلبات الحياة عنهم. كلّ ذلك ليس مجزرةً ولا إرهابًا ولا انتهاكًا للحضارة، من منظور الموقف الألماني. فهذه الأوصاف لا يمكن أن تنطبق على دولة إسرائيل مطلقًا، فهي ممثلة الغرب والحضارة، أما الهمجية فلا تأتي إلا من حماس ومن يناصرها من الفلسطينيين!
في حقل الدراسات الأكاديمية، هناك حقلٌ معرفيٌّ تأسّس منذ أربعة عقود، تحت اسم "دراسات ما بعد الكولونيالية". ومع التسليم بأهمية بعض منطلقاته ونتائج دراساته والإنتاج المعرفي الذي يقدّمه، فقد كانت وما زالت لديّ الكثير من التحفظات على ذلك الحقل المعرفي. وكنت أرى ضرورة تجاوزه إلى ما يمكن تسميته بما بعد بعد الكولونيالية. كما كنت أعتقد بضرورة التوقف عن التركيز المبالغ فيه على الاستعمار ونتائجه، وإيلاء أهميةٍ أكبر للعوامل الداخلية المتمثلة في الاستبداد السياسي خصوصًا. لكن حالة إسرائيل الفريدة تذكِّرنا دائمًا بأنّ الاستعمار لم ينتهِ، وأنّنا ما زلنا في مرحلة فيها استعمارٍ مدعومٍ من الدول الغربية الاستعمارية السابقة. كان من المفترض أنّ هذه الدول قد تخلَّت عن سياستها الاستعمارية، واعتذرت عنها، ولم تعد تتبنى القيم والممارسات اللاإنسانية المرتبطة بها؛ لكن يبدو أنّه ما زال لدى هذه الدول الاستعداد ذاته لدعم الاستعمار، وممارسته بطريقةٍ أو بأخرى، والنظر بدونية إلى الشعوب غير الأوروبية. المفارقة أنّ أصحاب الموقف الألماني يزعمون، وأحيانًا يتوهمون، أنهم يؤمنون بالمساواة الحقوقية بين البشر، وبوجوب تمتّع كلّ البشر، كأفراد وكجماعات، بالحقوق الأساسية ذاتها؛ لكنهم، في الممارسة، لا يتردّدون في مساندة احتلالٍ استيطانيٍّ مستمرٍ منذ عقودٍ طويلةٍ، ويخرق الكثير من القوانين والمواثيق الدولية، ويؤيدون تقديم كلّ المساعدات السياسية والاقتصادية والقانونية والعسكرية والإعلامية له، مع علمهم أنّ هذه المساعدات تساهم في استمرار ذلك الاحتلال، وفي تعزيز قدرته على تجاهل القوانين والمواثيق القانونية والحقوقية الدولية، وعلى ارتكاب المزيد من الجرائم.
حسام الدين درويش: ترفض إسرائيل فكرة أن يحظى الفلسطينيون بحق تقرير مصيرهم في دولةٍ مستقلةٍ خاصةٍ بهم
ثمّة مغالطةٌ تُستخدم كثيرًا في الإشادة بالدول ذات النظام الديمقراطي، وتتضمن الافتراض أنّ تلك الديمقراطية تعني أنّ تلك الدول ملتزمة، في المجال الدولي، بمبادئ حقوق الإنسان والقوانين المحلية والدولية ذات الصلة. ما ينبغي التشديد عليه، في هذا السياق، أنّ الديمقراطية نظامٌ سياسيٌّ داخل الدولة، وليس بين الدول أو في العلاقات الدولية، وأنّ (معظم) الدول الغربية الديمقراطية ارتكبت الكثير من الجرائم في علاقاتها الدولية، سواء بدعم المستبدين أو الغزو العسكري أو الضغط والابتزاز والاستغلال الاقتصادي. فالسائد، في هذا السياق، هو منطق القوة، وليس منطق الحق (الديمقراطي). فليس نادرًا قيام هذه الدول بتجاهل القوانين الدولية، أو خرقها ورفض الامتثال إليها، عندما ترى حكوماتها الديمقراطية أنّ من مصلحتها فعل ذلك. هذا ما فعلته، على سبيل المثال، أميركا، مع أو بدون حلفائها الغربيين، في فيتنام والعراق وأفغانستان ... إلخ، وهذا ما تفعله إسرائيل، المزعوم أنّها ديمقراطية، بدعمٍ من دولٍ ديمقراطيةٍ غربيةٍ، مع الفلسطينيين باحتلال أراضيهم، واستيطانها، وتشريد أهلها، وجعلهم نازحين، ورفض عودتهم إلى أراضيهم. وحتى إذا سلمنا بأنّ إسرائيل ديمقراطية، من حيث أنه توجد فيها أحزاب وانتخابات وفصل سلطات وحريات أساسية عمومًا، فمن المؤكد أنّ إصرارها على أن تكون دولةً يهوديةً، فقط، يقصي 20% من سكانها العرب غير اليهود، وينفي كونها دولتهم، أو يمثل تمييزًا، مبدئيًّا، ضدهم، على أساس الانتماء الديني أو الإثني. وهذا أمر يتنافى، تمامًا، مع مفهومٍ أساسيٍّ، في النظام الديمقراطي، وهو مفهوم المواطنة.
ثمّة سؤالٌ يبدو ساذجًا، لكنه يلح عليّ كثيرًا، أخيرًا، ولا أجد له جوابًا مقنعًا أو مناسبًا. وربّما لا أستسيغ أو لا أستطيع أن أتقبّل الإجابات الموجودة عنه: ما الذي يجعل (معظم) الدول الغربية تقدّم كلّ هذا الدعم لإسرائيل، رغم أنّها دولة احتلالٍ استيطانيٍّ، ورغم أنّ هذا الدعم يقدّم صورةً وسمعةً سيئةً جدًّا لهذه الدول، ويضر بمصداقيتها وبمزاعمها في خصوص احترامها لحقوق الإنسان، لدى شعوبٍ كثيرةٍ، ويعرِّضها للكثير من الانتقادات، المحقة وغير المحقة؟ ربما كنت، سابقًا، أبحث عن الإجابة عن مثل هذا السؤال في المكان الخطأ: في مجال الأخلاق والقانون، أو في مجال حقوق الإنسان والمواثيق والقوانين الدولية. لكنني حتى حين بحثت عن إجابةٍ معقولةٍ في مجال المصالح السياسية أو الوطنية لهذه الدول، لم أجد أنّ ذلك الدعم يحقق فعلًا مصالح حقيقية لتلك الدول. على العكس من ذلك تمامًا، رأيت أنّه يضر، غالبًا وعلى الأرجح، بمصالحها، لدرجةٍ أو لأخرى. الإجابة السائدة، والتي لا أرى أنها صحيحةً، أو التي لا أريد أن أصدق أنها يمكن أن تكون صحيحةً، تتمثل في القول إنّ ذلك يحصل، جزئيًّا ونسبيًّا، لأسبابٍ ثقافيةٍ. فهناك من يرى الأمور من منظورٍ قطبيٍّ ثنائيٍّ، ويتصرّف على أساسه: غربٌ علمانيٌّ/ مسيحيٌّ/ يهوديٌّ مقابل شرقٍ مسلمٍ أو إسلاميٍّ. وذلك "الغرب" يرى إسرائيل امتدادًا حضاريًّا له، في ذلك الشرق الهمجي المتخلف. وعلى هذا الأساس، يُفسِّر كثيرون تناقض أصحاب الموقف الألماني الذين يرون في هجوم حماس الذي قتل فيه 1200 شخص إسرائيليّ انتهاكًا للحضارة، في حين أنهم يعدون حرب إسرائيل على غزّة حضارةً، رغم أنّها أفضت، حتى الآن فقط، إلى مقتل فلسطينيين يفوق عددهم أكثر من عشرين ضعفاً عدد الضحايا الإسرائيليين.
من حيث المبدأ، حال كلّ الفلسطينيين في فلسطين وإسرائيل سيئ، من حيث أنهم خاضعون للاحتلال، ومحرومون من حق تقرير المصير، وقيام دولتهم المستقلة، أو من حيث أنهم محرومون من المساواة الكاملة في المواطنة في دولةٍ تريد أن تكون دولةً يهوديةً فقط. وعندما سألتك "ما الذي ينبغي للفلسطينيين فعله، من وجهة نظرك، لنيل حقوقهم المغتصبة من دولة إسرائيل؟، فسؤالي لم يكن بلاغيًّا، ولا لتبرير أي فعلٍ يقوم به هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك. فانا أود، فعلًا، أن أفهم وجهة نظرك.
كورنيليا زنغ: لا شيء يمنح الإنسان الحق في أخذ حياة شخصٍ آخر، لا التهجير والاحتلال ولا الحياة في "سجنٍ في الهواء الطلق"
وقبل أن أطرح سؤالي أو أسئلتي، أود أن أسجل اختلافي مع قولك إنّه لا يوجد أي شيء يبرّر قتل إنسانٍ لآخر. فوفقًا للقوانين الدولية والمعمول بها في كلّ دول العالم، ووفقًا لأي منظومةٍ أخلاقيةٍ معقولةٍ، من حق الإنسان، وربّما من واجبه، قتل من يهاجمه ويطرده من بيته ويغتصب أرضه ويحرمه من أبسط حقوقه الإنسانية، ويعتدي على أهله وأحبابه. فمن حيث المبدأ، جنود الاحتلال، وليس المدنيين المسالمين، هدفٌ مشروعٌ لمقاومة الاحتلال. ونفي مشروعية مقاومة الاحتلال، وقتل الجنود المعتدين، أمرٌ غير معقولٍ، نظريًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا وسياسيًّا. هذا حقٌّ للناس المستباحة أراضيهم. وإنكار هذا الحق هو ترسيخٌ لشريعة الغاب، ولا يرتكز على أي أساسٍ أخلاقيٍّ معقولٍ، بل هو نفيٌّ لمفهوم الأخلاق ذاتها، بما تتضمنه من واجباتٍ وحقوقٍ. وهنا، تحديدًا أو خصوصًا، يمكن الحديث عن "حق الدفاع عن النفس"، بمعقوليةٍ أكبر بكثير من الحديث عن حق دولة الاحتلال الإسرائيلية في الدفاع عن نفسها في مواجهة الناس الذين تحتل أراضيهم! ولتجنّب أي سوء فهمٍ محتملٍ، أنا لا أؤيد العنف، بل أكره العنف عمومًا كثيرًا، لكنني لا أرى أنّه باستطاعتي، أو من حقي، أن أنكر الحق المبدئي لآخرين في ممارسة العنف ضد المعتدين، في مثل الحالة المذكورة.
من السهل الاكتفاء بإدانة قيام الفلسطينيين بهذا الأمر أو ذاك، وهذا النقد محقٌّ بالتأكيد أحيانًا؛ لكن ليس لهذا النقد قيمة كبيرةٌ إذا لم يترافق مع تصوّرٍ أوليٍّ معقولٍ لما يمكن وينبغي لهم فعله، للحصول على حقوقهم. لهذا أطرح عليك بعض الأسئلة، بكلّ جديةٍ، وأنتظر إجابتك عنها. إسرائيل تحتل الأراضي الفلسطينية (وأراضٍ سوريةٍ) منذ عقودٍ طويلةٍ، وهي ترفض صراحةً قيام دولةٍ فلسطينية، ومنذ يومين عبّر نتنياهو، بوضوح شديدٍ، عن هذا الرفض حين أعلن بوقاحةٍ وصفاقةٍ أنّ إسرائيل لن تقبل مطلقًا بقيام دولةٍ فلسطينيةٍ، وأنها ستظل محتفظةً بالسيطرة الأمنية على المنطقة الواقعة من النهر إلى البحر (تذكرين أن هناك من يتهم رافعي هذا الشعار من الفلسطينيين ومؤيديهم بمعاداة السامية وتأييد الإرهاب)، ولن تتخلّى عن ذلك مطلقًا. الأسئلة المطروحة بجدية هنا: كيف يمكن وينبغي للفلسطينيين أن يناضلوا للحصول على حقوقهم المشروعة، وفقًا لكلّ للقوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية؟ وإذا استمرت إسرائيل في رفضها لقيام دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ أو لقيام دولةٍ ديمقراطيةٍ واحدةٍ تتضمن الفلسطينيين والإسرائيليين بدون أي تمييزٍ في ما بينهم، ما الذي ينبغي للمجتمع الدولي عمومًا، وللدول (الغربية) الداعمة لإسرائيل خصوصًا، فعله في هذه الحالة مع إسرائيل؟ لا يمكن للمرء بالطبع أن يتوقع أن يصر الغرب الداعم لإسرائيل تجاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بمثل مواجهته للاحتلال الروسي لأجزاء من أوكرانيا، لكن، من وجهة نظرك، ألا ينبغي لذلك الغرب أن يتوقف عن تقديم الدعم العسكري والمالي والسياسي والإعلامي لإسرائيل، إلى أن تقبل بحل الدولتين أو حل الدولة الديمقراطية الواحدة؟ وإذا لم يفعل الغرب ذلك، ألا يعني أنّه هو أيضًا مسؤولٌ عن ذلك الاحتلال وعن الضحايا الناجمة عنه؟
حسام الدين درويش: من منظورٍ قانونيٍّ وأخلاقيٍّ، الحق الفلسطينيٌّ واضحٌ وضوح الشمس، وباطل الاحتلال الإسرائيلي فاقعٌ ودامغٌ مثل بقع دماء طفلةٍ على ثوبها الأبيض
أنت تتحدثين عن حالات تعايش محدودةٍ، وترين أنّ ذلك نموذج باعثٌ على الأمل ويُبنى عليه، ويبدو أنك تعتقدين أنّ السلام ممكنٌ ومرغوبٌ بدون عدالةٍ وإنصافٍ. وأنا أتفهم ذلك، وأتفق معه، جزئيًّا، فقط لأنني أرى أنّ العنصر الأساسي في السلام هو، أو يجب أن يكون، العدالة. فبدون عدالةٍ، لا معنى للسلام، أو لا وجود لسلامٍ فعليٍّ حقًّا. وقد طرح العرب على إسرائيل مبادرةً أساسها معادلة "الأرض مقابل السلام"، بمعنى أن تعيد إسرائيل الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى أصحابها، ويقبل كلّ العرب، في المقابل، التعايش مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها. لكن إسرائيل، متسلحةً بالدعم الغربي الأعمى والدائم لها، رفضت تلك المبادرة، وطرحت معادلة مضادة: "السلام مقابل السلام". وتعني تلك المعادلة الإسرائيلية وجوب قبول، أو بالأحرى، استسلام العرب والفلسطينيين للاحتلال بوصفه أمرًا واقعًا، وأن يسود السلام على هذا الأساس. وكما ذكرت آنفًا، أعتقد بضرورة الترابط الوثيق بين السلام والعدالة. فالفصل بين هذين الطرفين هو الذي يبيّن معقولية الحديث، أحيانًا، عن ضرورة الحرب العادلة، للتخلّص من السلام الظالم، وللوصول إلى السلام العادل.
سرني قولك إنّ حوارنا جعلك تهتمين بمعاناة الفلسطينيين أكثر من ذي قبل، وإنك تواصلتِ مع الجمعية الألمانية الفلسطينية لهذا الغرض. وقد اطلعت على موقع الجمعية المذكورة والأفكار والقيم والمواقف التي تتبناها. وتكوَّن لديّ انطباعٌ أوليٌّ أنّ خطاب الجمعية الجيّد، بل الممتاز، عمومًا، ذو طابع دفاعيٍّ مبالغٍ جدًّا فيه عمومًا، على الرغم من أنّ كلّ ما تتبناه الجمعية من أفكار ومواقف وقيم مسوَّغ ومبررٌ بوضوحٍ وفقًا للقوانين الدولية والقوانين الألمانية المحلية ذاتها. من ينبغي أن يتسم خطابه بتلك النزعة الدفاعية هم أصحاب الموقف الألماني الإسرائيلي. فمن منظورٍ قانونيٍّ وأخلاقيٍّ، الحق الفلسطينيٌّ واضحٌ وضوح الشمس، وباطل الاحتلال الإسرائيلي فاقعٌ ودامغٌ مثل بقع دماء طفلةٍ على ثوبها الأبيض. لكن هذا هو الحال عمومًا في ألمانيا للأسف. وتبلغ مفارقة الموقف الدفاعي الذي تتبناه تلك الجمعية ذروتها في النص الأساسي الذي تضعه الجمعية على واجهة موقعها الإلكتروني. فهذا النص لا يتضمن حديثًا عن الحقوق الفلسطينية المغتصبة، وإنّما عن معاداة السامية وضرورة التمييز بينها وبين انتقاد إسرائيل. أتفهم حصول ذلك في السياق الألماني، لكنني أرى أنه يمثل حالةً مؤسفةً يضطر فيها الضحية إلى الدفاع عن نفسه وتبرئة ذاته من تهمةٍ أو جريمةٍ لا علاقة له بها. ومع ذلك تبقى الشبهات والتشكيكات تلاحقه كظله غالبًا.
وللإجابة عن سؤالك في خصوص حجم دعم فلسطينيي غزّة لحماس، ثمّة الكثير من المؤشرات إلى أنّ ما تذكره الجمعية دقيقًا، لكن، للأسف، ليس هناك مجال للتأكد من ذلك في القريب العاجل، لأنّ قطاع غزة مدمر تدميرًا كاملًا تقريبًا، وليس هناك مجال لحصول عمليةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ في المستقبل القريب هناك. وقد كتبت سابقًا نصوصًا في انتقاد استبداد حماس أو لاديمقراطية حكمها لغزّة. وبينت، في تلك النصوص، أنّه إلى جانب النضال من أجل الحصول على حق تقرير المصير، في مواجهة الاحتلال الخارجي (إسرائيل) ينبغي للفلسطينيين النضال من أجل الحصول على حق تقرير المصير في مواجهة الاستبداد الداخلي (حماس). وبين الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي، ونتيجةً لهما، يعاني الشعب الفلسطيني من أوضاعٍ كارثيةٍ حادةٍ ومزمنةٍ. والحديث عن مسؤولية الطرفين، في هذا السياق، لا يعني تساوي حجمي هاتين المسؤوليتين. فحجم مسؤولية كلّ طرف يتناسب طردًا مع مدى قوته. وكما هو معروفٌ التفاوت كبيرٌ، والتوازن شبه معدومٍ، بين هاتين القوتين الغاشمتين.