حديث "اذكروا محاسن موتاكم" وعزاء جودت سعيد
ذكرت في سياق مقالتي السابقة في عزاء المرحوم جودت سعيد حديثاً نبوياً يقول "اذكروا محاسن موتاكم"، الأمر الذي أثار حفيظة البعض حول الحديث وصحته، ونظرا لأهمية الموضوع كقيمة أخلاقية في التعامل مع حرمة الميت.. أكتب هذا المقال:
لقد أوليت السنة المباركة اهتماماً كبيراً، ويسر الله تعالى علي في مراحل من حياتي وأثناء طلب العلم التوفيق لدراسة علم الحديث رواية َدراية، فقد أكرمني الله:
1- بمدارسة وقراءة الأحاديث بأسانيدها، حوالي أربع سنوات في حضرة المحدث الكبير الأستاذ الدكتور سيد محمد سيد ندا، حيث خصص لي وقتاً مباركاً من بعد المغرب إلى ماشاء الله، بجامع الإمام الأعظم، فأكملت الكتب الستة قراءة عليه.
2- الإجازات العالية السند وبعدة أسانيد من المغرب وشبه القارة الهندية.
3- التطبيق العملي بعد الاغتراف العلمي وممارستي لتخريج الأحاديث من خلال تحقيقي لعدة مجلدات من كتب التراث، وتخريجاتي لآلاف من الأحاديث.
4- تدربي كذلك على التخريج ومعرفة الرجال عندما كنت أعمل في مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر.
5- الصداقة العلمية في المراكز البحثية المعنية بالسنة النبوية مع فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة والأستاذ الدكتور موسى لاشين والأستاذ الدكتور همام سعيد، وغيرهم.
فقد كسبت -والحمد لله- خبرة طيبة في الحكم على الحديث ورجاله وأسانيده وطرقه.. الأصل القرآني في التعامل مع الأحداث الغابرة وشخصياتها ومع المؤمنين.
1- "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ". (البقرة 134).
2- "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ". (الحجرات 10).
ونحن نفرق بين النقد والانتقاص وبين مناقشة الأفكار في الجامعات وأروقة المراكز العلمية وبين إطلاق الأحكام المنافية للدين والأخلاق.
ومن منطلق تخفيف حالات الاحتقان والتهجم على كل ميت بعد موته، رأيت التحقيق في أسانيد حديث ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً "اذكروا محاسن موتاكم وكفّوا عن مساوئهم" وفق فقه الميزان وتطبيقاته.
أقول المعنى المراد هنا:
* على المسلم أن يحسن الظن بأخيه المسلم أو أخته المسلمة في جميع الأحوال.
*أن يمتنع عن الإيذاء باللسان والجوارح، إيذاءً مادياً أو معنويا، قال الله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ". وقال صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". رواه البخاري (10) ومسلم ( 40).
الله أسأل أن يحفظنا جميعاً عن الغيبة والنميمة والإيذاء المادي والمعنوي وسوء الأخلاق وأن يوفقنا لمكارم الأخلاق والاقتداء بالرسول العظيم صاحب الخلق العظيم
فهذا الحديث يؤكد على أن:
1- ذكر محاسن موتى المسلمين مطلوب.
2- بيان مساوئهم محظور ومحرم شرعاً.
التخريج:
رواه أبو داود في سننه (4900) وسكت عنه مما يدل على حسنه، والترمذي (1019)، وابن حبان في صحيحه (3020)، والطبراني في الأوسط (4/58) والكبير (12/438) والصغير (1/280)، والحاكم في المستدرك ( 1/385) والبيهقي (4/75) وجامع الأصول الحديث (8450).
الحكم عليه:
أولا- حكم على هذا الحديث بالضعف عدد من الأئمة بسبب وجود عمران بن أنس المكي، حيث قال فيه البخاري منكر الحديث، ولذلك قال النووي في الأذكار (204) إسناده ضعيف، وهكذا قال الألباني في ضعيف الجامع (739) وشعيب الأرناؤوط في تخريج العواصم (5/10) ولكنه ذكر رأيا آخر كما سيأتي.
وقال الترمذي (1019) هذا حديث غريب، سمعت محمداً يقول عمران بن أنس المكي: منكر الحديث، وروى بعضهم عن عطاء عن عائشة. قال: وعمران بن أبي أنس مصري أقدم وأثبت من عمران بن أنس المكي.
ثانيا: الحكم عليه بالصحة أو الحسن:
أ- سكوت أبي داود على الحديث مع روايته في سننه يدل على أنه حسن، وهذا ما قاله في رسالته لأهل مكة: كل ما سكتُّ عنه فهو صالح.
ب- تصحيح ابن حبان حيث رواه في صحيحه، وكذلك تصحيح الحاكم في المستدرك، حيث قال: صحيح الإسناد.
ت- ذكره عبد الحق الإشبيلي (ت 581هـ) في الأحكام الصغرى (345) وقال في المقدمة: إنه ملتزم بذكر ما هو صحيح الإسناد وإن كان له كلام آخر في الأحكام الأخرى (2/550).
ث- حسنه الحافظ ابن حجر (ت 852) في تخريج مشكاة المصابيح (2/209).
ج- صححه السيوطي في الجامع الصغير (899) والزرقاني في مختصر المقاصد (80).
ح- وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج المسند (4/467) حسن في الشواهد، ثم قال في تخريج سنن أبي داوود (4900) صحيح لغيره.
الترجيح.. أستطيع القول:
* ما ذهب إليه بعض العلماء السابقين من أن درجة هذا الحديث لا تقل عن الحسن بل تصل إلى الصحيح لغيره بكثرة الشواهد -هو الصحيح الراجح-، ويؤكد أيضاً هذا الحديث:
* ما رواه البخاري (6516، 1393) والنسائي (1935) وابن حبان (1666) و(302)، بسندهم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا".
*وروى النسائي (1935) والطيالسي (1597) وابن أبي الدنيا في الصمت (709) عن عائشة أم المؤمنين قالت: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء، فقال: "لا تذكروا موتاكم إلا بخير". قال العجلوني في كشف الخفاء (1/114) إسناده جيد.
وفي رواية قال الحافظ ابن حجر في الفتوحات الربانية (4/2010) سندها حسن: أن عائشة رضي الله عنها ذكر عندها رجل فنالت منه، فقيل لها إنه قد مات، فترحمت عليه، فسألت عن ذلك، فقالت "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تذكروا موتاكم إلا بخير".
والحديث لا يشمل:
1- باب بيان الجرح والتعديل.
2- باب القضاء للوصول إلى الحق. وإنما في الأمور العامة:
أ- مثل الخطب.
ب- والمقالات.
ت- والكلام العام ونحو ذلك.
فلا يجوز في هذه الحالات:
1- ذكر موتى المسلمين بسوء.
2- ونبش قبورهم بالسوء.
3- وذكر مساوئهم حتى لو كانت موجودة لأنها غيبة للميت فتكون أشد إثماً من غيبة الحي المنهي عنها.
بل إن نصوص القرآن والسنة في النهي عن الغيبة عامة أو مطلقة للحي والميت، وإذا لم تكن العيوب موجودة فيه فهذا بهتان وإثمه أعظم من الغيبة.
والله أسأل أن يحفظنا جميعاً عن الغيبة والنميمة والإيذاء المادي والمعنوي وسوء الأخلاق وأن يوفقنا لمكارم الأخلاق والاقتداء بالرسول العظيم صاحب الخلق العظيم. آمين يا رب العالمين.