تركة السنوار
على مدار عامٍ كامل، ومنذ أحداث السابع من أكتوبر، واصلت وسائل إعلام العدو، إلى جانب بعض وسائل الإعلام العربية المتواطئة، تكرار رواياتٍ تدّعي أن رئيس حركة حماس يحيى السنوار يختبئ خلف أسرى العدو أو يستخدمهم دروعًا بشرية لحماية نفسه وقيادته من الاستهداف. كما زعموا أنه يتوارى مع بقية الأسرى في نفقٍ يقع على عمق يزيد عن 60 مترًا تحت الأرض.
استمرت هذه السيناريوهات التي يروج لها "إعلام العار" في محاولة لتأليب الرأي العام ضد قيادات المقاومة في لبنان وفلسطين، متذرعين بأنهم دمى لإيران، وأدوات تخدم أهدافها في المنطقة، وذلك لتبرير تخليهم عن مسؤولياتهم الأخلاقية تجاه ما يتعرض له إخوتهم في غزة.
وكأنها إرادة إلهية أن تكون نهاية السنوار في إحدى جبهات القتال، محاطًا بمقاتلين اثنين فقط، حيث استشهد وهو يواجه العدو بشجاعة، دون أن يدير ظهره. رحل السنوار، وقبله نصر الله، والشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والقائمة تطول لكن الأهم هو أن تبقى روح المقاومة.
كأنها إرادة إلهية أن تكون نهاية السنوار في إحدى جبهات القتال، محاطًا بمقاتلين اثنين فقط، حيث استشهد وهو يواجه العدو بشجاعة
إن واجبنا الأخلاقي يحتم علينا أن نزرع بذور المقاومة في قلوب الجيل القادم، وأن نضمن انتقالها بين الأجيال. فالمقاومة ليست معركة عابرة؛ إنها إرثٌ ينبغي أن يورث، وفكر وثقافة يجب أن يستمرا حتى تحرير كل شبر من الأرض.
لعلها إحدى لعنات العولمة أن يتغير، مع مرور الوقت، ميزان التفوق التكنولوجي للعدو، فالمعلومة لن تبقى حكرًا لفترة طويلة. هي سنوات قليلة حتى تتمكن المقاومة من امتلاك وسائل تكنولوجية مماثلة، فربما لن تستطيع الحصول على طائرات حربية، لكنها ستتمكن من امتلاك تقنيات حديثة قادرة على تجنب مختلف أنظمة الرصد وربما تعطيلها.
الأهم من التكنولوجيا هو الأيديولوجيا؛ فالتكنولوجيا قد تحسم جولة، لكن البقاء للأيديولوجيا. ولعل أصدق دليل على ذلك هو أن الكيان لا يزال عاجزًا عن الوصول إلى أسراه بالرغم من ستة آلاف رحلة عسكرية إلى الكيان من الدول الغربية وأميركا في عام واحد، بالإضافة إلى 1600 رحلة رصد وتجسس وفقًا للجزيرة نت، وحتى اغتيالهم للسنوار لم يكن إلا صدفة عابرة.
مشهد السنوار الأخير وهو يئن بيدٍ تنزف متكئًا على أريكةٍ مهترئة مدركًا ومستعدًا بشجاعة للحظة النهاية ثم ممسكًا بعصا يصوبها نحو الطائرة المسيرة التي تراقبه، كأنها -العصا- فسيلة مقاومةٍ أراد غرسها للأجيال القادمة. يلخص هذا المشهد إرادة الفلسطيني، عاقدًا العزم على عدم التنازل عن حقوقه مهما كانت التضحيات. مشهدٌ يتحدى العدو وينذر بأن الفلسطيني سيظل حاضرًا وصامدًا، وأن جذور مقاومته ستبقى مغروسة في الأرض حتى تحريرها.
يمكن تشبيه ما فعله السنوار للأمة العربية بما يفعله المسعف عندما يرى مريضًا فاقدًا للوعي على وشك مفارقة الحياة، يحاول جاهدًا إنعاشه بالضغط بقوة على صدر المريض، على أمل أن يعود القلب للعمل. لكننا، بتقاعسنا وتخاذلنا، لم نقتل هذا المسعف فحسب، بل لا نزال نتخلص من كل من يسعى لإنقاذ الأمة ولا نزال مصرّين على الاستمرار في غفلتنا وغفوتنا.