تجربة إذاعة محلية مضحكة

05 اغسطس 2017
+ الخط -
كان أبو قدور من أعلام البلدة التي عشتُ فيها طفولتي وبعضاً من أيام شبابي. إنه رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة، يعاني من عجز ولادي في ساقيه جعله يمشي بصعوبة، وعلى عكازين. 

وعلى ما يبدو، فإن الإنسان الذي يخسر شيئاً من ملكاته الجسدية يستعيض عنها بمضاعفة ملكات أخرى، ربما كان أبرزها الذكاء، بدليل الأسطورة التي رويت عن أبي العلاء المعري وتقول، إن الله حينما خلق البشر قسمهم إلى مجموعات لا تقل الواحدة منها عن خمسة وعشرين رجلاً، ووضع لكل مجموعة حصتها من الذكاء في مستودع خاص، على أن يكون توزيع الحصص على أفراد المجموعة في اليوم التالي.

ولكن الفتى الصغير، أبا العلاء، لم يطق الانتظار صبراً، فتسلل ليلاً إلى المستودع والتهم حصة مجموعته كلها من الذكاء، فلما عرف أفرادُ المجموعة الآخرون بما حصل، هجموا عليه هجوم الرجل الواحد، وظلوا يضربونه على عينيه حتى عمى، فأمضى بقية عمره من دون بصر، ولكن بذكاء خارق، وأما هم فقد عاشوا بأجسام سليمة، وعيون ترى البعوضة الطائرة في السماء السابعة، ولكن من دون ذكاء.    

وبسبب الجلوس الطويل في البيت والدكان، تحول أبو قدور إلى واحد من عشاق المطالعة، فكان يقرأ كل الصحف والمجلات والكتب التي تأتي إلى مكتبة البلدة، على سبيل الاستعارة المجانية، أو لقاء مبلغ مالي صغير، شريطة أن يحافظ على نظافتها ودون أن يكسر أضلاع الكتاب الذي يقرأه... وبمجرد ما سمع باختراع الراديو أرسل في طلب أخيه سائق البوسطة الوحيدة التي كانت تنقل الركاب بين حلب وإدلب، وأوصاه على راديو، فأحضر له واحداً في الحال.. وبعد سبعة أيام متواصلة من الإصغاء والتقليب بين المحطات، خطر له أن يطَّلع على "الكاتالوج" الخاص بأسرار الصنع والتشغيل والتوليف، واستعان بجاره محمود البايملي الذي يدرس الأدب الإنكليزي في جامعة حلب، فترجم له بعض الكلمات والمصطلحات، وما هي إلا أيام قليلة حتى توصل إلى فكرة قد لا تخطر ببال الجن الأزرق، وتتلخص في إمكانية إبطال عمل الإرسال الإذاعي، ووضع ميكروفون في مكان ما، وتوصيله بأسلاك طويلة إلى الراديو، فينتقل الصوت من الميكروفون إلى الراديو مباشرة! يعني أبو قدور يتكلم فيطلع الصوت من الراديو وكأنه هو المذيع.

وبينما كان يجري البروفة الأخيرة على تجربته العبقرية، إذ سمع، وبمحض المصادفة، أن موعد إعلان نتائج البكالوريا قد اقترب، وكان يَعرفُ أسماء كافة الطلاب من أبناء البلدة المتقدمين إلى امتحانها، وعددهم خمسة عشر طالباً؛ فما كان منه إلا أن اختبأ وراء القاطع الخشبي الذي يقسم دكانه إلى قسمين، وجلس وراء الميكروفون الخاص به، وبدأ يذيع النتائج في كافة أنحاء سورية، بصوته الجهوري، وشرع المارة يقتربون من الصوت، وينظرون إلى الراديو فلا يشك أحد مهما بلغ من الخبث أن هذا المذيع ربما يكون أبو قدور.

وكان أبو قدور يمعن في التلاعب بأعصاب الرجال المتجمعين عند باب الدكان؛ فبعدما يعدد أسماء الناجحين في محافظة دمشق ينتقل إلى الحسكة، ثم إلى اللاذقية، ثم إلى دير الزور، ثم إلى السويداء، وهو يعرف أسماء العائلات الكبرى في كل محافظة، فحينما يقرأ نتائج دمشق، يقول مثلاً: حمدي مؤيد العظم، وسامر بيتموني، عبد الله خادم الجامع، وحينما يقرأ نتائج دير الزور يقول جاسم الخلف، ومحمود الحمد، وسطام العفاس، وإذا جاء إلى درعا يقول: رضوان المحيميد وعامر الربداوي.. حتى وصل أخيراً إلى محافظة إدلب فقرأ أسماء المتقدمين إلى الامتحان جميعهم دون استثناء، ثم قطع الإرسال، وخرج من وراء القاطع وهو يقول لهم: مبروك، نجحتم! 

وعلى الفور احتدمت الفرحة والهيصة وإطلاق النار في الهواء، وزغردت النسوة اللواتي كن يتفرجن على ما يجري من بعيد، وهرع الناجحون وذووهم إلى دكان بائع الحلوى "شعيبيات"، واشتروها ووزعوها على الرائح والغادي، وكان لأبو قدور الحصة الأكبر من الأقراص، باعتبار أن النتائج أذيعت من الراديو الخاص به!

في اليوم التالي، صدرت النتائج الحقيقية من الإذاعة، وفوجئ الناس أن الناجحين هم ثلاثة فقط، وحينما علم الراسبون بالمقلب الذي رتبه لهم أبو قدور، هرعوا إليه يريدون أن يمسكوا بخوانيقه، ولكنه فاجأهم بقوله:

- هس، اسكتوا، صدقاً لو أنا كنت غير ناجح بصفي لخجلتُ من أنظر في عين أحد منكم. عيب!  

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...