بين قمة غزة وقاع الرياض
35 يومًا من الاستعجال، من الهرولة، من الجري، من الطوارئ، من حزم الحقائب وربط الأحزمة، من السفر بطائرات أسرع من الصوت، لا نحو غزة، وإنما نحو الرياض حيث القمة العربية الإسلامية الطارئة، جداً، للغاية، بعد استشهاد 12 ألف فلسطينيّ في غزة، وجرح 25 ألفًا، وفقدان 3000 تحت الأنقاض، ونصف كلّ الضحايا تقريبًا على اختلاف تصنيف خسارتهم، من الأطفال، وربعهم من النساء، والربع الباقي من شبان ورجال ومسنين لهم أحلام وأمانيّ وعائلات وقصص، ويخلّفون وراءهم نساءً وأطفالًا أيضًا، من الأرامل والثكالى والأيتام.
قمة عربية لا أسرع منها، كانت المسافة بين الحرب وبين الدعوة إليها أن يخرج 20 مستشفى في قطاع غزة عن العمل بسبب نفاد الوقود، وأن تُحاصر مستشفيات أخرى من القلة الباقية من الدبابات الإسرائيلية المتوغلة في أحشاء القطاع الحزين، وأن ينزح مليون ونصف مليون إنسان من بيوتهم، وأن يبحث أطفال غزة عن كسرة خبز، عن ملعقة أرز، عن بقايا طعام، عن كبشة طحين، عن شربة ماء، عن حبة دواء، عن خيط جراحة، عن ضوء كشاف، عن شحنة هاتف، عن قطرة وقود، عن ذرة ضمير، عن بعض الدم غير دمائهم، ولا يجدون.
قمة عربية ولا أروع، ترفض ولو ربّما مقترحات شبه محترمة، تجيد الكلام، وتأخذ خطوات شكلية أو دبلوماسية في ذلك العالم الوهميّ الزائف من النفاق، ولا تُقبل أيّ نبرة حادة تجاه الطفل المدلّل إسرائيل. المخرجات ستكون نفسها، الخطوات نفسها، التصريحات نفسها، بعض الكلمات التي ستأخذ 20 إعجابا على يوتيوب، بعضها الذي سيأخذ 100 ألف مشاهدة على "إكس" (تويتر سابقا)، وبعض الكلمات النارية التي ستأخذ أكثر من مليون مشاهدة على منصات مثل إنستغرام وتيك توك... وسيولًا من التعليقات التي تثني على الموقف النظيف، ربما، ثم ينتهي "قاع" الرياض، وتبقى غزة وحدها؛ حيث قمة كلّ شيء هناك.
قمة غزة المنعقدة منذ 35 يومًا من التضحية والفداء والبطولة، قمة الرجولة والشهامة والنخوة والبسالة، قمة الإنسانية أن تكون إنسانًا بطبيعته يقاوم، يسعى لكرامته، ويرفض ذله، وينفض محتلَّه، وقمة العذاب أن تحاصر، وقمة العدوان أن تقتل، وقمة الخسة أن تخان، وقمة النذالة أن تُتجاهل، وقمة الذهول أن يجوّعك أخوك.
أما قاع العرب المعقود في الرياض، حيث أصحاب السعادة والفخامة والسموّ، وأكثر السادة بلا سيادة، والزعماء بلا زعامة، والقادة بلا قيادة، والكلمات بلا أفعال، والكلمات بلا حروف، والكلمات بلا نقاط ولا حركات، معظمها خطب من ورق، بلا أي فعل مؤثر، وبعضها خطب من القلب، بعضهم يعجز من صميم قلبه، وبعضهم يخون من صميم قلبه، وبعضهم تنضح البغضاء من قلبه، وبعضهم تنضح المأساة من قلبه، وبعضهم لا شيء في قلبه، إلا الصمت، والخواء، وضجيج المواسم.
قمة العدوان أن تقتل، وقمة الخسة أن تخان، وقمة النذالة أن تُتجاهل، وقمة الذهول أن يجوّعك أخوك
قاع الرياض، حيث قاعة ويكيبيديا، معلومات خطيرة لم نكن نعرفها من قبل، أن إسرائيل احتلال، وأن غزة تتعرض لقصف همجي، وأن أرواح المدنيين هناك في خطر، وأن الاحتلال يرتكب مجازر بحق الأبرياء، وأن ذلكم كله يرقى إلى أن يكون، ويصنف، بعد إذن العالم الأول، جرائم، جنايات، جرائم، ضد -آسف- الإنسانية.
تلك القمة التي لم تقدم أي شيء، كغيرها، ربما تصرف كل قائد على انفراد كان مجديًا أكثر خلال الأيام الماضية، بعض الأدوار الفعالة في سياقات دبلوماسية وسياسية محدودة، لكنهم حين يجتمعون، فإنّ كل شيء ينفضح ويبدو جليًّا، ويكون في وحدة كل منهم قوة قد تجرؤ على الظهور أحيانًا في كل بلدٍ على حدة، لكن تجمعهم على كل حال لا يكون إلا فُرقةً ذليلة، وتحييدًا لأي تأثير محترم.
35 يومًا، قضوها في احتفالات وافتتاحات ومواسم وأعراس وتصريحات، وبطولات مزيفة، 35 ليلةً ناموها، في هناء وشفاء وعافية ومزاج وروقان وهدوء وراحة بال، 35 يومًا وهم يسمعون الصراخ نفسه، يشاهدون الأشلاء نفسها، ولم تخاطبهم أنفسهم بأن "قمتهم الطارئة" التي بلا فائدة يمكن أن تتعجل "شكليًّا" حفظًا لماء الوجه، ولكن أي ماء؟ وأي وجه؟
أعتقد أن القمة العربية في الرياض، أبدلت حرفًا من متنها سهوًا، والأحق أن تكون القُبة العربية، التي هي منظومة دفاع حديدية متطوّرة تقي إسرائيل كوابيس زوالها، وتطمئن الاحتلال أنّ الصواريخ القادمة من الجنوب تصدها بصدرها العاري، وأن "أمن إسرائيل" في أمان، وأن "أمن وسلامة المواطن الإسرائيلي جنبًا بجنب إلى أمن وسلامة المواطن الإسرائيلي" على رأي الزعيم إياه.
ولكن، على كل حال، الإنسان أبقى من الآلة، والمئذنة أعلى من القبة، والفكرة أثبت من النزوة، وقمة غزة حيث العالم أحقر وأصغر بكثير من أن يُرى، لن تعبأ، ولن تبالي، ولن تشغل بالها، بما يدور هناك.