بين حرية المحظورات... وكبت الفكر وحظر المؤلفات
تداولت وسائل الإعلام أن إحدى الدول العربية الإسلامية، التي قامت على أسس الإسلام عقيدة وشريعة أصدرت قائمة بحظر (1574) كتاباً، لكبار العلماء والمفكرين الذين ينتمون إلى الفكر الإسلامي المعتدل من مختلف التوجهات السلفية، والإخوانية، والدعوية، والصوفية المعتدلة، بل حتى للمستقلين مثل الأستاذ مالك بن نبي، والأستاذ عبد الحميد أبو سليمان "رحمهما الله".
والغريب أنه لا يوجد بين الكتب المحظورة أي كتاب للملحدين، أو الإباحيين، وحتى كتب التكفير والتبديع للمسلمين وجماعاتهم.
وأغرب منه حظر كتب القدامى لكبار العلماء، ما دام المحقق أو الناشر إسلامياً، مثل كتاب "نهاية المطلب" لإمام الحرمين، و"الوسيط " للغزالي ونحوهما.. مع أن القاعدة القرآنية تقضي: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" (الأنعام 164)، وأكثر دهشة للعاقل هو أن هذا الحظر قد تم تحت شعار "الوعي" حيث الناس يتساءلون أي وعي هذا إذا كان هناك حظر لمجرد الفكر؟ أليس الوعي في مناقشة الفكر من قبل أصحاب الفكر؟ أليست القاعدة الثابتة تقضي أن الحديد لا يفله إلا الحديد؟
وفي نظر العقلاء أن وسائل التواصل الاجتماعي وبقية وسائل الإعلام تنشر الفكر على الملايين بل على مئات الملايين، ولا يمكن أن يكون لهذا الحظر أثر كبير إلا من خلال الفكر القوي.
إننا نتألم أن نجد في القرن الواحد والعشرين وفي دولة عربية إسلامية عزيزة علينا، الانفتاح على المحرمات والمحظورات والشهوات، مع منع الطيبات من الفكر الأصيل والمعتدل، فهذا تناقض لا يأتي بأي خير للأمة الإسلامية أو العربية أو الإنسانية، فالعقلاء متفقون أنّ لا مصلحة للوطن في كبت الحريات، ومنع المؤلفات، فإذا هم لا يستفيدون من كرامة الإنسان في الإسلام، فلماذا لا يستفيدون من الغرب الذي تقدم من خلال إصلاح النظام السياسي ومنح الحريات وحماية الحقوق وكرامة الإنسان؟
يا أيها المسؤولون عن بلاد المسلمين إنكم يوم القيامة مسؤولون وواقفون أمام رب العالمين يسألكم ماذا فعلتم للإسلام ولأمتكم ولشعوبكم؟
فمن المعلوم أن القرآن الكريم تضمن معظم حجج الملاحدة والدهريين والمنافقين فذكرها بدقة وإنصاف ثم ردّ عليها؟ فلم يحظر الأفكار، ولكن ناقشها وفندها، بل قال سبحانه: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" (البقرة 256)، وقال: "فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" (الكهف 29).
وفي الإسلام أن الحرية هي مصدر العزة والكرامة والشهامة، وأن العبد الذليل المكبل بالأغلال لن يكون قادراً على الإبداع ولا على الدفاع أو الإنتاج فقال سبحانه في وصف خطورة الكبت: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ۖ هَلْ يَسْتَوُونَ ۚ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (75) "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ ۖ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ۙ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (النحل 75 - 76).
فهاتان الآيتان تدلان بوضوح على ما يلي:
1- أن هناك فرقاً كبيراً بين من هو حرٌ ومن هو في قيود الكبت والرق.
2- وأن الشخص الممنوع من الكلام لأي سبب كان سواء كان طبيعياً أم لخوف ووجل يكون كلاً وعالة على صاحبه، فكذلك الشعوب التي سُحبت منها الحرية تصبح كلاً وعالة وغير قادرة على الإبداع والحركة، ولا تأتي بخير، في حين أن الفرد القادر أو الشعب الحرَّ القادر على الحركة والمتمتع بالحرية هو الذي يكون قادراً على تحقيق الخير والحضارة والإبداع والتقدم، وأنه القادر على الأمر بالعدل والمعروف، لأنه غير ممنوع من الكلام، بل هو حرّ طليق يسير بعزة على الصراط المستقيم.
إن الآيات القرآنية أكدت في أكثر من مرة أن فتنة الناس في دينهم، وعقائدهم، وكبت الحريات، وقتل الكرامة والقيم، ومنع الناس من حرية التفكير، ومن حرية القراءة والعمل لأشد عند الله من القتل وإزهاق الروح فقال تعالى "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 217).
ومن المعلوم أن الفتنة كلها جامعة للشرور والمصائب فهي تشمل التعذيب والأذى والسجن بسبب الالتزام بالدين ومنهجه القويم، وتشمل منع ممارسة الشعائر والحقوق والكرامة الإنسانية، كما يشمل التهديد بالإخراج من الأوطان.
نداء ونصيحة:
وإنني في ختام هذه الكلمة الموجزة أوجه ندائي ونصيحتي (والدين النصيحة) إلى أولي الأمر، بصورة عامة وإلى هؤلاء الذين يمنعون الكتب بصورة خاصة، وبخاصة كتب الفكر والفقه والعقيدة والشريعة والتفسير والحديث لمجرد أن مؤلفها فلان... أنصحهم لله تعالى بأن يتراجعوا عن منع الفكر والكتب، ويعطوا الحرية للناس، ويكتفوا بالتوعية الحرة القائمة على مناقشة الفكر بالفكر دون تدخل القوة والسلطة، كما أنصحهم بالمصالحة الشاملة داخل مكونات الأمة.
يا أيها المسؤولون عن بلاد المسلمين إنكم يوم القيامة مسؤولون وواقفون أمام رب العالمين يسألكم ماذا فعلتم للإسلام ولأمتكم ولشعوبكم؟ فبالله عليكم أبمنع كتب معظم علماء الأمة المعتدلين تخدمون دينكم وبلادكم؟
أبفتح أبواب المحرمات على مصراعيها تحققون العزة والتقدم والقوة والوحدة لبلادكم؟
لماذا لا تنظرون إلى تاريخكم الإسلامي؟ ولماذا لا تقرأون أسباب الحضارة والتقدم والقوة والوحدة عند الغرب؟
وأختم كلامي بما حكاه القرآن الكريم عن الذي آمن من قوم فرعون حيث دعاهم إلى سبيل الرشاد ثم قال: "يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ" (39) "مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ" (40) "وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ" (41) "تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ" (42) "لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ" (43) "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" (44) "فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ۖ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ" (45). (غافر 39 - 45).