بين البداية والنهاية.. ما زلنا غرباء
الكثير من الأدباء والكتاب ناقشوا في أعمالهم مسألة العودة إلى الوطن بأساليبهم الأدبية المختلفة. البعض رأى أنّ العودة كانت بهدف استعادة بعض الحقوق المسلوبة منهم، كما في رواية "بيدرو بارامو" لخوان رولفو، وآخرون يرونها هروباً من الغربة ذاتها كما في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب الصالح، وهناك من يرون في العودة من أجل واجب أُجبروا على أدائه، كما في رواية "الغريب" لألبير كامو أو "الشقاء العادي" لبيتر هاندكه، وهناك أيضاً من يرون العودة من أجل الحُكم واستعادة المُلك كما في الكثير من مسرحيات الأدب الإنكليزي والفرنسي وهلّم جراً.
أتساءل: لم كل هذا الاهتمام بالعودة؟ أهو حنين أم خوف متأصل؟ أم هو ناجم عن محاولات لإرضاء غريزة مجهولة؟
أخاف الأماكن المجهولة، كما أخاف أن أركض ولا أصل، أو أن أصل لأكتشف أن النهاية ليست كما توقعت، وأنها ما كانت تستحق كلّ ذلك العناء.
الكثير من الكتّاب تعدّوا الغربة المادية، والتي هي غربة الأهل والوطن، وناقشوا الغربة الروحية، أن تعيش وحيداً بين حشد كبير من الناس، أن تبحث عن نفسك وسط أهلك. يقول أدونيس عن تلك الغربة: "يكفيك أن تعيش في المتاه.. منهزماً أخرس كالمسمار".
أكبر هزيمة يمكن أن تلحق بأي مغترب، هي اكتشافه بأنه سيعيش غريباً طيلة حياته، أما المؤلم فهو أن يصل إلى تلك النتيجة بعد عمر طويل ومديد، حينها ينهزم مرتين.
من حين لآخر أجلس مع نفسي طويلاً، أتخيلني كهلاً عاش قرناً ونيف، أمشي على عكازة تكاد تحملني وأكاد أحملها، يمرّ من جانبي طفلٌ صغير، يركض متغنياً بطاقته اللامتناهية، أودّ إيقافه لأخبره ببعض ما همست به الحياة إليّ، ولكنه يواصل الركض خلف لعبة وأظل وحيداً أردد الكلمات: "ما أغرب هذا العالم يا بنيّ! مليء بكل ما هو متناقض، مجهول وغامض وكأنه حُجرة ذات بابين، لا يعرف العابر، أهو متجه إلى مخرجها أم مدخلها؟ ولا يعرف حتى ما خلف تلك الأبواب".
أهلع عندما أرى الأيام تمضي بسرعة، أخالني فوق عجلة، ليس بإمكاني إيقافها ولا التحكّم بمقودها، وكأنّ قوة خفية تقودني إلى مكان مجهول.
أخاف الأماكن المجهولة، كما أخاف أن أركض ولا أصل، أو أن أصل لأكتشف أن النهاية ليست كما توقعت، وأنها ما كانت تستحق كلّ ذلك العناء.
أعرفُ يا بنيّ أننا كلنا نركض من أجل العودة، ونعمل كي لا نحتاج مرتين، وما أثمن الأشياء عندما نحتاجها للمرة الثانية.
لا تطلب مني أن أنتظر فأنا أكره الانتظار، إنه ممل وقاس، ينخر في أعماق الروح كما ينخر المرض الخبيث في الجسم. الانتظار مرض الأغبياء والضعفاء، إنه علامة من علامات العجز التام، يصبح مرضاً مستعصياً، ما إن يدمنه المرء لينتهي به إلى الهلاك.
أرأيت يا بُنيّ... لو أنّك هوّنت على نفسك عناء الركض، واسترحتَ قليلاً، أو فلتمش على مهل، فطريق العودة أمامك طويلة ومحفوفة بالمخاطر والصعاب.
وسواء عدت أم لم تعد، فأنت ذاك الغريب الذي سيظل يبحث عن وطن يُؤوي فيه روحه التائهة، عن مكان يلّم فيه شتات أفكاره وجسده المتهالك، عن أرض صلبة يمكنه الوقوف عليها.
أرأيت ما أشبه البداية بالنهاية، في كليهما نكتشف أننا ما زلنا غرباء.