بيضة رخ في الديار السورية

03 مايو 2017
+ الخط -
أمس، كنت أجري على حافة نهر الماين خبباً، وأنا أئن تحت طعن الشحوم الثلاثية وخفق الكوليسترول، وألهث وأنا في الخطوات الأولى، كمن أنهى سباق ماراتون، لكني جريت من أجل توصيل النشيد، فصادفت في طريقي سيدةً ألمانية في مشمش الأربعين، يلحق بها غراب، فقلت لها: أهذا طائرك؟ قالت بسعادة، مثنية على جائزة ملاحظتي: نعم. قلت: رائع، وانتهى زاد الركب من اللغة الألمانية.

كان غرابها الأسود يلحق بها كالكلب، وهي تنثر له حبات الفستق إغراءً. وكنتُ قد كتبتُ قصة نُشرتْ في "ضفة ثالثة" بعنوان "الرقص مع الغراب"، وتروي قصة صداقة بين بطل القصة والغراب. الغراب من أغرب الكائنات، وهناك فلم كابوي شاهدته في صباي، كان لبطله حمامة، ما إن ينتهي البطل من قتل المجرمين، حتى تهبط على كتفه حمامته البيضاء، وما زلت أبحث عنه "ذكرى من عالم النسيان". وانتهيت منذ شهرين من مجموعة قصصية عن سيرة الصبا، أروي فيها ذكريات عشقي للطيور، لقد لقيت من عمري هذا نصبا.

 تقول بعض الأساطير: إن الأنسان أصله سمكة، وأظنُّ أنّ حلمه طير. وكنت أحبُّ كثيراً جملة "وغنّت الأطيار بمختلف اللغات" في السير الشعبية: وأتذكر بحب وعشق لا يوصف، قصة أحمد المرزوقي في السجن، وكان قد رواها في "شاهد على العصر" في قناة "الجزيرة"، وصداقته مع عصفور، فتحوا له باب السجن بعد أن انتهت محكومية العصفور، فخرج وخطب عصفورة، وعاد ليبني عش الزوجية في الزنزانة!

 في صباي، كان هناك قصة في كتاب القراءة عن صبي اسمه أحمد، على اسمي، لاحقاً صار اسمه "باسم" بعد تولي العلمانية السورية مقاليد الحكم، وصار البوط تاجاً على رؤوس الحكام لا يراه إلا الأحرار، لذلك عندي ثأر لا ينتهي مع باسم. كان سميّي أحمد يمتطي ظهر نونٍ اصطاده ثم أطلقه، فكافأه النون بأن اصطحبه في جولة في المحيطات، وكنت أفضّلُ عليها حكاية تعلّقِ السندباد بساق طائر الرخ العملاق، والفارق بينهما كبير وخطير، وأنا أخشى من الماء والغرق، طائر الرخ هو طائر المستحيل، ويحبَّ السماء. ومملكتي كانت السماء، قضيتُ طفولتي بين شعبين من شعوب الله: الطيور في النهار، والنجوم في الليل، لا أفقه لغة الطير، واحترق لوعة من وميض النجوم قبل النوم.

 بالأمس القريب، أجرى معي الصديق، محمد الحجيري، أول مقابلة صحفية في حياتي، سألني أسئلة "ع الواقف"، وكان منها سؤال حول الطائر الذي أحبّ، فخطفني السؤال على جناحه إلى طفولتي، وكنت أعشق كل الطيور، وعلى رأسها منشد الطيور هزار الكروم، الذي كان يحب الوقوف على أطلال الشتاء، وعلى أعلى أغصان شجرة الكرمة، ويبدأ بمواويل ساحرة، ولا يغني إلا وهو يتأرجح على حبلة العنب، وقلت: "إني أفتقد ذلك النشيد، وهو نشيدي الوطني، وكانت طيور الهزار هي حماة الديار. وفي ألمانيا هزار، ولكن ليس كهزار الوطن، ينشد ويغني، ويقف على كل الأشجار، لكن معزوفته الغنائية سريعة، وينشّز، ولا يلتزم بالنوتة، أو أنه يغني بالألمانية، وهي لغة صعبة، ولغة الغربان أسهل علي، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ".

 وهناك فيلم وثائقي في عالم الحيوان، عن الحياة في غابات الأمازون، وفيه سمعت صوت طائر أمازوني يصفر، فقط يصفر، وتصفيرته تشبه نبضة قلب، يجلُّ عن الوصف، نبضة ضوء تنبع من فؤاد طائر، نبضة تقدح مثل البرق في الغابة، نبضة واحدة تشبه دفقة النبع من الصخر، نبضة تشبه فلق الصبح.

  وخرجت من سورية، وكان عناصر الحاجز العسكري يحرقون الشجيرات، حتى لا يختفي خلفها المتظاهرون الهاربون من رصاصهم، فتذكرت فيلم "الأفيون والعصا"، وهو فيلم عن الثورة الجزائرية، فقلت: إن الاحتلال والاستبداد يكرهان الأشجار، ويحبّان الدجاج.

 من المشاهد التي أتذكرها قبل النزوح، عندليب وقف فوق الشجرة التي نمتْ وسمقتْ على غير ميعاد، أو بقوة العناد، أو بالطفرة الوراثية، وأغرتْ طائراً شارداً بالهبوط فوقها والغناء، وأنشأ النظام حاجزاً تحتهاً. مرَّ شيخان وسمعا الطائر، فوقفا مشدوهين، كان يغني، وتمنيتُ لو اقتربتُ، فالقلب قد أضناه عشق الجمال، ولم تكن بي جرأة. أمرَهما عناصر الحاجز بالمغادرة، واغتال أزيز الرصاص صوتَ العندليب، وكنت أنظر من الشرفة إلى الرخ، إلى طائر الثورة السورية العملاق، وهو يخفق بجناحيه العظيمين، ويحاول الإقلاع، والمدفعية تقصفه، وهو يصرخ، ويصدر صفيراً يشبه دفقة نبع من قلب الصخر.

أحمد عمر
أحمد عمر
أحمد عمر
كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."
أحمد عمر