بيتٌ صامتٌ... كمقبرة
تقريباً، لا أحد سيطرق بابك. هذا أمر جيد، على المدى القصير على الأقل. لكنه يصير مزعجاً على المدى الطويل. السكون الدائم مزعج بالضبط كالضجيج الدائم! إنهما وجهان لعملة واحدة، عملتان لوجه واحد.
منذ شهور وأنا في هذا البيت. لا أعرف من يسكن في البيت المقابل، لم أرَ أبداً أحداً يطلّ من النافذة أو يخرج من الباب، ولم أسمع صوتاً. النافذة مغلقة باستمرار.
البيت الذي في الخلف لم أرَ بابه أبداً، والبيت الذي على اليمين رأيت، مرّة، شخصاً طويلاً ذا شعر طويل كعازف غيتار كهربائي يخرج مستعجلاً، ولم أره أبداً يعود. في الحقيقة، لم أتبيّن ملامحه، حتى إن رأيته يعود بعد هذه الشهور، لا شيء سيؤكد لي أنه هو وليس شخصاً آخر. البيت الذي على اليسار يعرف بعض الحركة والنشاط اللذين يطمئنان قلبي قليلاً، جارة تكلّم أطفالها صباحاً، مدّة عشر دقائق على الأكثر. أرى أيضاً الأضواء تنطفئ وتشتعل في أوقات محدّدة ودقيقة، وهذا كافٍ كي أشعر أنّ هناك حياة إلى جانبي، جيران أحياء وودودون من لحم ودم قد يحتاجون ذات يوم بعض الملح. المكان ليس مقبرة على الأقل.
مرّت شهور أخرى، اكتشفت أنّ الجارة بلا زوج، وبلا أطفال، وأنها في حقيقة الأمر لا تكلّم أحداً، بل تكلّم كلبيها فقط. بعد شهور وشهور، اكتشفت أنّ بيت الجارة يحوي كلبين بالضبط، واحد ضخم من فصيلة كلاب جبال البيرينيه النبيلة، والآخر كلب زينة، ضئيل، طويل، ولصيق بالأرض بأذنين طويلتين جداً ومرتخيتين إلى أسفل كجوربي عجوز. كلبان رائعان للغاية، لم أسمع نباحهما أبداً. كلبان سرّيان جداً كالعملاء، لا أستطيع أبداً أن أتخيّل كيف بإمكان كلب أن يصوم عن النباح كما لو أنه ليس كلباً، وأن ينسجم بوعي كامل مع طابع الهدوء والسكينة والصمت التي تلفّ هذا المكان. كما لو أنّ الكلبين شخصان من هذه البيئة، من هذه الثقافة، وهذا الطقس، متطبعان بطباع أهل المكان. أهل المكان الذين ليسوا من الجن طبعاً، بل من البشر.
السكون الدائم مزعج بالضبط كالضجيج الدائم، إنهما وجهان لعملة واحدة، عملتان لوجه واحد
رأيت الجارة تخرج رفقة كلبيها، منشغلة بهما تمام الانشغال، تحدثهما كطفلين ويسمعان حديثها باجتهاد واضح لا يذكّر بالأطفال الكسالى بقدر ما يذكر بالأطفال المجتهدين النبغاء والوشاة.
لست معجباً كثيراً بكلّ هذا، رغم أنه ليس سيئاً. أن يخدعني هذان الكلبان طوال هذه الشهور أمر لا أستسيغه بسهولة. كيف سأفرّق مستقبلاً بين كلب وبشر؟ بالحدس فقط؟ بالخيال؟ كيف سأستطيع تخمين البيوت التي تحوي كلاباً من البيوت التي تحوي قططاً من البيوت التي لا تحوي سوى نفسها؟
امرأة تشارك بيتها مع كلبين فقط، مكتفية بذلك. كلبان لا ينبحان. يأكلان وينامان ويصيخان للأوامر وينتظران الطبطبات السخية والتربيتات والعناقات المنتظمة ويهرعان بنفسيهما إلى بانيو الحمام دون ضجيج ودون احتجاج أو تماطل، حيث يعرفان جيداً أنّ الماء دافئ، وأنّ الشامبو لا يلهب العينين، وأنّ صاحبتهما عارية.
إنها عائلة جميلة وسعيدة مكوّنة من امرأة أربعينية لها ملامح وقصة شعر وهندام الكاوبوي وكلبان، سوى أنها لا تصلح جارة لي. لا أتخيّل أبداً أنها ستطرق ذات يوم بابي طالبة بعض الملح وكلباها يقعيان بأدب خلفها كمتسولين مهذبين لإثارة شفقتي. لا أتخيل أبداً، أنها وكلبيها يحتاجون ملحاً، فأغلب أهل هذا المكان يقاطعون السكر والملح باعتبارهما سموماً. بينما لا يمكنني أبداً تخيّل جيرة أو عشرة دون خبز وملح وسكر.
لم يعد يعني لي شيئاً حديثها الصباحي مع كلبيها، إنه حديث مع لا أحد، عكس ما تخيّلت قبل أن أصدم بالحقيقة، حقيقة أنّ أهل المكان هنا في حقيقة الأمر جنّ وليسوا بشراً، جنّ على كلّ المستويات تقريباً.
لا يمكنني أبداً تخيّل جيرة أو عشرة دون خبز وملح وسكر
من فرط الهدوء لا أحد سيطرق بابك تقريباً، هذا أمر جيد، على المدى القصير على الأقل! لكنه يصير مزعجاً على المدى الطويل. سعاة البريد أيضاً لن يطرقوا بابك، سيقذفون الرسائل من شق الباب ويمضون سريعاً. حتى إن أسرعت إلى الباب ستجد الرسالة فقط، ولن تجد ساعي البريد، تجد الرسالة ولن تجد المرسل، تجد الرسالة ولن تجد الرسول. لقد تبخر ساعي البريد ككل مرّة كالهيدروجين.
رسائل ضرائب وكتب إشهارية، هذا كل شيء. بل حتى الكتب الإشهارية يمكنك الاتصال بالمصالح الخاصة من أجل وقف وصولها إلى بيتك، سوى أنّ كثيرين لا يقومون بهذا الإجراء، خصوصاً العجزة. وصول رسائل الإشهارات لا يعني الإشهارات فقط، بل يعني أن هناك حياة في الخارج، وأنهم لم ينسوا بعد أنك هنا، حي ترزق، وأن المكان ليس مقبرة، بل بيت.
يفرح العجزة بخرخشة كتب الإشهارات، وهي تلقى داخل بيوتهم بغتة من فرجات الأبواب. ينهض العجوز كما لو أنه في مهمة مهيبة وجليلة، تتبعه كلابه، يحمل كيس البلاستيك المليء بكتب الإشهارات، يعود به إلى الداخل مبتسماً، يقصد علبة نفايات الورق والكرتون ويقذفه هناك دون أن يفتحه. يعود بعد ذلك إلى "الفوتوي" قبالة التلفزيون سعيداً راضياً كما لو أنه زار صديقا أو زاره صديق، بينما تقصد كلابه الوصولية المتحمسة علبة نفايات الورق والكرتون لتتشمّمها باهتمام.