بطيخة جدي

22 يوليو 2023
+ الخط -

يصفع البطيخة صفعات متتالية، ثم يقرّب أذنه منها، ليسمع نوعية الصدى الذي سيرتد منها، ويحدّد بناء على ذلك، إن كانت حلوة كالعسل أم لا. يجب أن يكون طنين الصدى بهذا الشكل: طننننننن طننننننننننننننننننننن طنننننننننننننننننننننننننننننننننن..

حين يتأكد من ذلك، يشير إلى البائع بسبّابته في اتجاه البطيخة بثقة زائدة حتى تلمس سبابته البطيخة: "زن هذه يا رجل.. لا لا هذه..".

أشعر دائماً من نبرةِ صوت جدّي واقتضابه في الكلام، وهو يُخاطب الباعة بكلّ تلك الصرامة، أنهم غشّاشون، وأنّه كشفهم وفضحَ ألاعيبهم. جعلني ذلك أتوجّس طيلة حياتي من الباعة كيفما كان نوعهم، وكيفما كانت بضاعتهم، خصوصاً إذا بدت سحناتهم كسحنات الملائكة. 

كلّما اشتريت شيئاً، أحسست في قرارة نفسي بأنّهم خدعوني. إن كان الثمن باهظاً، أعود إلى البيت فأجد أنّ البضاعة قد صارت أقلّ جمالاً، أقلّ فتنةً، أقلّ توهجاً! كأنّها ليست هي التي اشتريت! تبدو لي حين أتفحصها على مهل، تحت ضوءِ مصباح الكهرباء القوي، لا تستحق حتى درهماً واحداً! أقول في نفسي: "لولا أنّ البائع نوّم انتباهي وحرصي مغناطيسياً بحركاته المتقنة، وقسمه الغليظ على المصحف، ومدحه المفحم للبضاعة، لكنت اشتريتها بثمن أرخص". وأمّا، إن كان الثمن بخساً، فأقول في نفسي: "لقد اشتريت مقابل أوراق نقدية شيئاً لن يُباع حتى بالمجان!".

يقف جدي أمامهم، كما لو أنّه بطل سينمائي مفتول العضلات، سيتحدى مدينة بأكملها وسيهزمها وحده، يحدجهم (أولاً) بنظرة تحدٍّ صارمة ذات معنى، قبل أن ينظر (ثانياً) إلى البضاعة بتشكّك، عاقداً يديه الهزيلتين خلف ظهره. 

كلمات جدّي وحركاته أمام الباعة، جعلتني أتوجّس طيلة حياتي منهم، كيفما كان نوعهم، وكيفما كانت بضاعتهم، خصوصاً إذا بدت سحناتهم كسحنات الملائكة

هذا يعني بالنسبة إلى البائع أنّه أمام شخص فطن وخبير للغاية، غير متلهف على الشراء. بل إنه أكثر من ذلك، ربما يعرف الثمن الحقيقي الذي تُشترى به هذه البضاعة من سوق الجملة نفسه. أكثر من ذلك، ربّما يكون بائعاً سابقاً لها! هذا ما كان يقصده جدي بنظرته الواثقة تلك في عيني البائع على ما بدا لي.

لكن، لم أكن أعرف فعلاً، إن كان ما يجول في رأس جدي حينها، هو ما كان يجول في رأس البائع نفسه، أم أنّ البائع كان يفسّر نظرة جدي، على أنّها نظرة مغفّل أصيل قادم للتو من الحقل، وأسهل شيء في العالم هو خداعه.

شيء واحد كنت متأكداً منه، هو أنّ جدّي لا يُخدع أبداً، ولا يُهزم، ولا يقول خطأً، ولا يفعل سوى الصواب، فقد كان دائماً هو البطل في كلّ الحكايا الطويلة التي سمعته يحكيها. كيف سأقبل إذن، أن يخدعه بائع بطيخ؟!..

في البيت، نجد البطيخة مثلاً، أقلّ حلاوة مما تصوَّرَ، أو عديمة الحلاوة بالكامل أحياناً. يبرّر لنا ذلك بأننا شربنا الشاي بكثافة قبل أن نتذوّقها! هذا طبعاً، ومنطقياً، سيجعلنا عاجزين عن تمييز حلاوتها عن حلاوة الشاي، كما يقول. حجته القوية هذه تدفعني إلى أن أشك في نفسي، فأستنتج: ربّما أنّ البطيخة حُلوة حقاً، أما الخطأ فيكمن في لساني الذي جعلني أحسّ أنها عكس ذلك! 

طبعاً، هذا أفضل من أن أقول: إنّ البطيخة في حقيقة الأمر عديمة الحلاوة رغم أنّها كبيرة، وإنّ البائع قد خدع جدي، وإنّ نظرة جدي الصارمة في عيني البائع تلك، لم تكن سوى نظرة الطريدة في عيني صيّادها، وإنّ فحصه المتأنّي والدقيق للبطيخة بتلك الطريقة، بصفعها كأنّه يصفع طفلاً قليل الحياء، وتقريبها من أذنه لتحليل الصدى الذي ارتدّ منها تحليلات استخباراتية معمّقة، لم يكن كلّ ذلك في واقع الأمر، سوى مضيعة هزلية للوقت والمال..

المآل الحقيقي لبطيخة عديمة الحلاوة، هو أن تصير علفاً لبغلة الدَّريس، المربوطة بحبلٍ قصيرٍ أمام باب الزريبة، والتي لم يتبادر إلى ذهنها حتى في أحلامها السعيدة بالتبن الندِيّ حين تسهو، أنها ستتغدى ببطيخة كاملة اشتراها جدي بحرص شديد، لنفسه ولنا، وليس لها.

تظل البغلة تمضغ لمدّة ساعة، وبتثاقلٍ، أجزاء البطيخة الكبيرة، كما لو أنّها علكة، قبل أن تبلعها على مهلٍ، بتلذّذٍ كامل، دون أن يهمها في أيّ شيء، إن كانت حلوة كعسل الخروب أم لا. كانت بغلة سعيدة جداً، لا تعكّر صفو حياتها، أيّة أزمات نفسية حديثة، ودون شك كانت تقدّر براعة جدي في اختيار البطيخ، أكثر منّا بالتأكيد.

دلالات
محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.