بالرغم من ذلك كله.. "رمضان كريم"!
حين كنّا صغارًا، كان أهلنا يجعلون من رمضان جنة لنا، بموائد عليها كلّ ما لذّ وطاب، وأجواء فيها كلّ ما يملأ الصدور فرحًا، وصلوات تتسع لها مساجدنا، قيامًا وتلاوةً واعتكافًا، إلى أن كبرنا، فجاء رمضان وصرنا نحن "الكبار" الذين عليهم أن يجعلوا منه شهرًا مميّزًا، لكننا لم نعرف كيف.
الموائد خاوية على صحونها، لا شيء يملأها إلا مرارة العيش، والأجواء باهتةٌ من كدر الظروف وسعر العملة وقيمة الجنيه، إذ لا يشتري لك سحورًا، فكيف يضمن لك إفطارًا؟ والمساجد ثكنات عسكرية، تحدّها مواقيت الوزارة، وعقوبات الإطالة، واشتراطات الدولة، وتصريحات أمنية، وأئمة ممنوعون من إمامة الفريضة.
والمصلّون لم يعودوا هم، يرجون رحمة الله لكنهم يلحّون أكثر (باتفاق غير معلن) على أن يوّسع أرزاقهم، وأن يفك كربهم، وأن يسدّ ديونهم، وأن يعطيهم قوت يومهم، فتجد المساجد التي كانت تمتلئ نشيجًا وبكاءً عند "اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا"، تضجّ بالبكاء بأكثر، وتزخر بالدموع، حين يدعو الإمام "اللهم اقضِ الدين عن المدينين"، كأنه يؤمّ نزلاء في عنبر الغارمين لا شعبًا عاديًّا من المصلّين.
لم تعد الفوانيس تزيّن الشوارع كما كانت، ولم تعد فرحةً مجانية في أيدي الصغار، ولم تعد السمة السائدة أمام كل بيتٍ وفي داخله، وإنما صارت طريقة الأغنياء في الفرحة، ووسيلة تعبير الموسرين عن قدوم الشهر الفضيل، بعدما كانت مصر في رمضان، وبلادٌ عربية أخرى، عبارةً عن فانوس كبير على الخريطة، كلّ ذرةٍ فيه تضيء، وتغني "وحوي يا وحوي".
لكن بالرغم من ذلك كله، فالناس يتحايلون، يحاولون التشبّث بآخر ما تبقى لهم من "طقوس" رمضان، سواء تربعت على موائدهم صحون اللحم أو صحون العدس، أو صحون البيض، وحقيقةً أحاول كتابة أكلةٍ مقابلةٍ للحم على سبيل البلاغة لكنني كلما كتبت أكلةً وجدتها صعبة على العامّة كذلك؛ فكيلو العدس بخمسين جنيهًا، وطبق البيض بمائة وعشرة جنيهات، ولكن على كل حال، فإنهم يستعينون بالله على شظف العيش، محتفظين بحلاوة اللمّة على الإفطار والسحور.
الناس يتحايلون، يحاولون التشبّث بآخر ما تبقى لهم من "طقوس" رمضان
يجدون في سجودهم سلوى حين يقولون كلّ ما يعاقب عليه السامعون، ويسجّل خرقًا في حدود التعبير عن الرأي، ويدعون بكلّ ما يملكون من إيمان في قلوبهم، وصبرٍ في عزائمهم، أن يستجيب الله لما يخفّف عنهم هذه المحنة التي طالت، وأن يرفع عنهم الظلم الذي أعياهم وأحنى أعناقهم وقصم ظهورهم، ويلتمسون في الشهر الكريم بابَ ربٍّ كريم، لا يبخل بالفرج عليهم، وإنما يضع له موعدًا، سيكون فيه ما يسرّهم لكن حين يأتي أجله.
وأكاد أبكي حين أراهم، وأتخيّلهم، وأتصوّرهم، وأنا بعيد عنهم، لكن بي شيئاً يسير في الشوارع معهم، يكاد يسمع الحشرجة التي في صدورهم، والحوقلة التي في ألسنتهم، والحسبَنة التي في قلوبهم، وهم يرفعون إلى السماء عيونهم، ويمرّ عليهم الآخرون، فيتبادلون نظرات تشرح كلّ ما خفي وراءها، وهم يتبادلون التهنئة والتهدئة معًا، ويقولون بأصوات لها طابع السلوى: رمضان كريم.