انتصار الدم على النفط
منذ الشرارة الأولى لمعركة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والمقارنات بين المعركة وبين حرب أكتوبر عام 1973 (حرب العاشر من رمضان) كثيرةٌ متتالية، وتمتدّ المشتركات ما بينهما من حدوثهما في الشهر نفسه، وعنصر المفاجأة، وصولًا إلى تكبيد الاحتلال الإسرائيلي خسائر كبيرة وفادحة، وغير ذلك، مع إعطاء المعركة الحالية ميزةً إضافية ونوعية، بأنها قامت من حركة مقاومة ولم تقم بها دول وجيوش، ومع ما في الحربين من مشتركات، إلا أن هناك عنصرًا واضحًا يغيب عن المعركة الحالية، بل يُؤكد أن حالة الترهل العربية وصلت إلى حالة أشبه بالموت السريري، إن لم نقل التواطؤ.
ففي تلك الحرب التي تكبدت فيها قوات الاحتلال خسائر متتالية على أثر الهجمات المصرية والسورية، قامت الولايات المتحدة بدعم جيش الاحتلال بشكلٍ يشبه ما تقوم به اليوم من إقامة جسر جويّ لإعادة تزويد جيش الاحتلال بالذخيرة والعتاد، أما المغاير حينها فقد حظرت عددٌ من الدول العربية المصدرة للنفط شحناتها من النفط إلى الولايات المتحدة خاصة، وعددٍ من الدول الأوروبية، إلى جانب خفض إنتاج النفط، ما أثر على أسعاره عالميًا، وقد أدى هذا القرار إلى تغيرات كبرى، وسلط الضوء على قدرة النفط على أن يتحول إلى سلاح في يد الدول العربية، وأهميته الاستراتيجية الدولية.
وعلى الرغم من وجود هذا السلاح في يد الدول العربية عامة والخليجية على وجه الخصوص، إلا أنه لم تقم أي واحدة منها باستخدامه أو التلويح به حتى، ربما مجرد التفكير في هذا الخيار في هذا الوقت يُعدّ ضربًا من الجنون، فتلك الدول أصبحت أكثر ارتباطًا بالولايات المتحدة وأجنداتها، ومن ثم ارتبط عددٌ منها باتفاقيات التطبيع مع الاحتلال، وهو ليس تحولًا في شكل العلاقة من العداوة إلى "الشكل الطبيعي" فحسب، بل هو شراكة عميقة في المجالات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وها هو العدوان على غزة مستمر، والأخبار تتوالى عن الطائرات التي تنتقل من قواعد الولايات المتحدة، في هذه الدولة أو تلك، إلى مطارات الاحتلال، وتحمل الشحنات المتتالية من أدوات قتل إخواننا وأهلنا في قطاع غزة.
تعوم بلادنا على بحار النفط والثروات، فيما تموت غزة ويُمنع عنها قطرة من المحروقات، تؤنس بها لياليها المظلمة، وتُشغل بها مولدات مشافيها
كانت عبارة "لا سمح الله" تختصر الكثير من مشاعر الخذلان من مواقف الدول العربية والإسلامية، ولم يقف التقاعس عند المواقف المشبوهة، والحصار المرهق، بل وصل إلى حدّ دهس الألم وإنكاره، وقد نشأنا في بيئات إن توفي أحد الجيران، كنا في منازلنا لا نجرؤ على تشغيل التلفاز، وإن شغله أحدٌ ما لمشاهدة نشرة الأخبار - فقط -، فيكون الصوت منخفضًا جدًا احترامًا لذوي المتوفى، ولعمري لقد ساء هذا الزمن جدًا، فغزة تزفّ مئات الشهداء يوميًا، وتعاني ما تُعانيه من ضيم وحصار وقتل وتجويع، ودول عربية تفتتح مواسم لهوها من دون أي التفاتة ولو صغيرة جدًا، حتى تلك العادات القديمة عن خفض الصوت احترامًا لم نعد نراها، ولا نسمع بها.
تعوم بلادنا على بحار النفط والثروات، فيما تموت غزة وتُمنع عنها قطرة من المحروقات، تؤنس بها لياليها المظلمة، وتُشغل بها مولدات مشافيها، بينما يرقص الأقربون في مواسم العته والخبال، ويدعمون الظالم ويشيطنون المظلوم، وكأنها ثنائية صادمة، الأولى من يحفر الأرض ليستخرج منها الثروات ليغير الناس ويلهيهم، وبين من يحفر الأرض ليسطر للدنيا دروس العزة والكرامة والإباء، ويُظهر للعالم نموذجًا فريدًا من أرض غزة، تتكرر فرادته من إطلاق الطوفان وتمريغ وجه الاحتلال في التراب، وما تلاه من صمودٍ وثباتٍ ومواجهة.
دماء الغزيين في هذه الحرب تسيل بلا حدّ، بتمويل - أو بسكوت - من النفط المشبوه الذي صبغ واقعنا سابقًا بالقتامة، وخنق أصواتنا في شتاء بهيم - لا ريب سيزول -، ولكن الدماء المسفوكة ستنتصر على النفط، وعلى الخنوع والتعتيم، والتشرذم والضعف، فذلك الدم القاني هو الذي يعبّد طريق النصر والإباء، وهو لا شكّ أرفع شأنًا وأكثر أهمية من نفطهم، ولكن التاريخ لا يرحم، وكما سجل في طياته تلك المواقف المشرفة عن قطع النفط في ذلك الزمن، فإنه سيكتب في صفحات الخزي والعار عن تحول النفط في أيامنا إلى نبيذٍ يسكرون به، ولكن دماء الأبرياء لا تَنسى... أو تُنسى...