النساء والحب في زمن الحرب
تطيح الحروب الأحاديث عن الحب، لم يتوقف الحب يوماً عن التغلغل في تفاصيل العيش اليومي، ولن يترك مكانه فارغاً لسواه من المشاعر، حتى الحرب لا تخيف الحب وليست قادرة على ردعه، رغم استعصاء رصد تفاصيله، وتيه لغته في ظل تنازع المشاعر وخاصة في حالة طغيان المشاعر الغريزية مثل الخوف والرغبة بالبقاء على قيد الحياة.
في الحرب، وفي مواجهة الحب، تنشط حالات يتم تبريرها على أساس أنها إسعافية أو هروبية لتفادي الآثار المهولة للحروب، خاصة عندما تلجأ العائلات، وخاصة النازحة أو اللاجئة أو التي فقدت معيلها، إلى تزويج بناتها في عمر الطفولة بذريعة حمايتهن من الاغتصاب أو من تحكم قوى الأمر الواقع أو من الخطف والتشغيل في الدعارة.
لكن إجابات عديدة لطفلات أجبرن على الزواج حول سؤال لماذا تطلقتِ؟ إجابات كانت متشابهة، ورغم تنافرها مع حالة الحرب لكنها جاءت حقيقية وصادقة "ما حبيته أبداً" أو "أكرهه بشدة"! وفي أحسن الأحوال ينقلب فعل اللاحب ليلتصق بالزوج وحده "ما بيحبني أبداً". إذن يبقى الحب شرطاً إجبارياً أو ضرورياً لاستكمال الحياة والقبول بها حتى في عز سطوة الحرب.
تقول لمار: "عشت مع حبيبي الذي هو الآن زوجي علاقة حب لمدة عامين، وكان أهلي مصرين على رفضه تحت ذرائع مختلفة تتجدد، كلما تمكنا أنا وهو من إيجاد حل للذريعة السابقة، لكن عندما قررت أمي الزواج بعد وفاة أبي بسبب فقداننا معيل أسرتنا ووجود خمس بنات غير قادرات على العمل: أعلن عمي مدفوعاً بتوصية من أمي الموافقة على زواجي من حبيبي! كانت فرصة رائعة، ليس لبناء علاقة أسرية مع حبيبي فقط، بل للخلاص من تحكم زوج أمي المقبل والذي اصطحب أمي وأخواتي معه إلى قرية بعيدة عن مدينتنا!".
تلخص لمار تجربتها بسعادة: لقد من نجوت من كارثة الحرب بإرادة الحب وحده.
في الحرب يطغى خطاب التمسك بالآخر على خطاب الرغبة بالهجر أو بالفرار، يصير الآخر ملاذاً وحماية ومصدراً للود والرضى لتأمين سياق عيش أقل قسوة وأقل أذى
تتغير الأحكام الاجتماعية والقيم السائدة تحت ضغط التبدلات الجذرية الكبيرة، وإن كانت الحرب تبدلاً قسرياً لا يبقي ولا يذر ويطيح كل عوامل الأمان الشخصي والمجتمعي، إلا أنها في الوقت عينه، وعلى الرغم من مساوئها تغير وبصورة سريعة جداً الكثير من القيم والأعراف والتقاليد الراسخة والمتحكمة بحيوات البشر، لكنها فجأة تتحول وبسلاسة سريعة وقوية أيضاً إلى نسق قيمي اجتماعي جديد كان من غير الممكن تقبّله أو تمريره سابقاً تحت أي ظرف أو شرط.
في الحرب، يطغى خطاب التمسك بالآخر على خطاب الرغبة بالهجر أو بالفرار، يصير الآخر ملاذاً وحماية ومصدراً للود والرضى لتأمين سياق عيش أقل قسوة وأقل أذى.
في مواجهة أخطار التشرد والفقدان والعوز وغياب الأهل والبيئة الداعمة والأمان المجتمعي العام، يصير اللجوء إلى الاكتفاء بأشخاص بعينهم بديلاً اضطرارياً يعادل وجوده وجود الاستقرار والأمان والكفاية.
اضطرت مارسيل إلى الانتقال إلى قرية زوجها، كان مجرد التفكير في ذلك أمراً مرفوضاً ومستهجناً لدرجة أنه بداً مستحيلاً، لكن لا بيت لها الآن والأبناء سافروا جميعهم، عادت إلى منزل صغير بناه زوجها في قريته الوادعة والصغيرة، تمسكت مارسيل بزوجها كما لم تعهد نفسها من قبل، وتقبلت العيش في تلك القرية بتدرج لكنه مقبول ومشجع لمواصلة الحياة.
تقض الوحدة مضاجع البشر، وخاصة النساء، لكن النساء يتدربن بسرعة على التقبّل، تقبّل كل جديد مهما بدا قسرياً، وربما يلبسنه ملامح الفرح والرضا أيضاً.
زرعت حديقة منزلها الصغير بالخضار اللازمة للاستهلاك اليومي، ووطدت علاقتها مع أهل زوجها والجيران، تقول مارسيل: "اختبرت مشاعر حميمة ودافئة تجاه زوجي لم أكن قد عهدتها من قبل! أهو الخوف من الوحدة؟ أم حالة الضعف الطارئة؟ أم قوة الحب؟".
تعجز الحرب عن هزيمة الحب وإن تبدى على شكل ابتسامة صغيرة أو كلمة صامتة لكنها دافئة.