المواطن العربي وحالة إنكار الديمقراطية
عرف العرب الديمقراطية مع جلاء الاستعمار عن أراضيهم وتمايز مواقف النخب حول منح الاستقلال لهذه المستعمرات من عدمه. كان الجدل آنذاك حول كيفية إدارة الحكم المنتزع بالبنادق والمدافع، كما أنّ إعجابهم بترجيح الأغلبية والتمثيل النسبي وسيادة شعوب القوى الاستعمارية ألهمهم محاولات محتشمة لترسيخها في أوطانهم.
في هذه المرحلة تحديداً ألقت العائلات الحاكمة بثقلها في الساحة، واعتبرت أمل النخب في الديمقراطية هرطقة يسارية تُخفي طموحهم الشيوعي، وفي بعض الأحيان سفسطة إسلامية تُخفي خلافتهم المنشودة.
أدى هذا الوعي إلى تهديد العروش الفتية، لتتخذ الأنظمة كلّ السبل لوأد النقاش الذي تنامى لسنوات داخل نقاشات الطلبة الذين أسّسوا نواة التفكير النوعي آنذاك، من خلال الحركات الطلابية في الجامعات، وفي حلقات المهجّرين الذين أُبعدوا، بالضرورة لأسبابٍ سياسية بحتة، وذلك بهدف خلق "حزام صحي" حول أفكارهم المارقة حول آليات ممارسة الحكم، لتُترك هذه الأفكار في رفوف النخب الصامتة التي كانت مستفيدة على الأرجح من حكم العائلات، بل منظّرة له أحياناً، بما نهلته من براعات التخندق الغرامشي، حتى أصبح من الصعب عليها التفريق بين الملكية والجمهورية، وخلَصت إلى أنّها لا تملك شيئًا بعد مُلك هذه العائلات، أي صار وعيها السياسي ملطخاً بأدران الحكم الفردي، وتجارب الأنظمة الكليانية التي مرّت هي أيضاً ببعض الشعوب مستعمرة لها، ومكرّسة للجهل والدجل والظلامية ومحاربة الفكر المستنير.
عندما أزهر الربيع العربي من ياسمين تونس المنتشية بصحوةِ شعبها على حين غفلة من عائلات الحكم والتحكّم لعقود، بدأ الأمل يدب في أوصال الحلم الديمقراطي العتيق، فالتقت جماهير الأنظمة العربية في الساحات والميادين، واستنسخت المطالب كما الشعارات، ولخّصتها في إسقاط النظام، حتى يتسنّى لتلك البلدان بناء حكم ديمقراطي على أوطان تتسع للجميع، ولا تفرقها الخلافات القبلية أو الاثنية إلا بصواعق أنظمة العائلات.
كشّرت العائلات والأنظمة الحاكمة من جديد عن أنيابها الصلبة في كلّ المستويات والمراكز، لتجهز على الديمقراطية وتحوّلها إلى مغامرة جامحة
كان الحلم مشتركاً، وكاد يتحوّل إلى حقيقة سحرية أذهلت المواطن العربي الذي لم يكن متأكداً من سقوط جبابرة عصره بهتافات الجماهير الغاضبة، ليصبح له صوتاً مهماً غير صوته في الانتخابات التي يفوز بها الحاكم بنسبة تسع وتسعين فاصلة تسع وتسعين في المئة.
لمّا كان الحلم فتياً، ومازالت النخب في مراهقة حسم الخلافات، وتبويب مطالب الشارع فوق مكاتب السياسة وتحويلها إلى واقع اجتماعي يتحسّسه المواطن الغاضب... عندها كشّرت العائلات والسُّلط الحاكمة من جديد عن أنيابها الصلبة في كلّ المستويات والمراكز، لتجهز على الديمقراطية وتحوّلها إلى مغامرة جامحة، مع محاولة لإقناع المواطن العربي بألّا يحاول إتيانها مجدّداً، وأن يعود إلى طاعة العائلات كما تعوّد أن يفعل. ولتحقيق ذلك، عملت الأنظمة الحاكمة وساهمت في إيقاظ الخلافات الواهية حول الهوية والدين والسلم الأهلي، بل غذّت التطرّف والانحياز، وبحثت عن اختلافات تاريخية تجاوزها الزمن، كانت الجماهير الغاضبة أساساً، قد حسمتها يوم التقت وتوحّدت حول فكرة التغيير، هذا التغيير الذي كان ضرورة حتمية لم ينتظر أن تنضج فكرة الديمقراطية لدى النخب كما الجماهير، وإنّما استبق مراحل التحضير لها ومرحلة ترسّخها في الوعي السياسي لهذه الشعوب، والنتيجة كانت التهافت على تحقيق المطالب دون التفكير في مآلات ما يُمكن إنجازه، وما يصعب إنجازه مرحليّاً على الأقل في سياقات البناء والتأسيس بعد تهاوي الحكم الفردي وأدبياته التي طبعت العالم العربي لعشرات السنين.
وهنا صار إنكار الديمقراطية واقعاً جلياً يختزله المواطن في سنوات التجربة الديمقراطية دون تحليل أو مراكمة، أو دون البحث عمّا يمكن أن يرشَح من هذه التجربة من أجل تجارب أخرى قد لا تتأخر، ولا بدّ من أن تكون حاسمة في تحسّس الطريق لتصبح واقعاً ملموساً.
الآن، على الشعوب ونخبها أن تمسح حالة الإحباط التي رافقت التجربة الحديثة، وخاصة دوغمائيتها، في اعتبار أنّ الثورات تنجح لا محالة حتى في غياب المرافقة النخبوية لصفحات المواجهة مع الأنظمة السابقة والحكام الجُدد.