المصطلحات المنفرة

16 فبراير 2024
+ الخط -

كم مرّة نرفض أمرًا ما، ليس لأنّنا غير متفقين معه، أو لا يعجبنا، بل فقط لأنّه، ربّما يذكرنا بأمرٍ يزعجنا، يُذكرنا بأشخاصٍ ربّما نكرهم، أو يُذكرنا بأحداثٍ مؤلمةٍ بالنسبة لنا، ومن ثم نأخذ موقفًا منفّرًا من تلك الأمور، من غير أن نقبل أن نُعيد النظر فيها.

قد يكون هذا الأمر بسيطًا وهينًا إذا كان له علاقة بشخص واحد فقط، لكن ماذا لو كان لهذا الأمر ارتباط بشعب كامل مثلًا، وكان الأمر المُراد تقبّله في صالح هذا الشعب؟ هنا تصبح المشكلة أعوص، هذه المسألة لها علاقة وثيقة بارتباط اللغة بالمخيال الجمعي للناس، فاللغة على سبيل المثال ليست فقط عبارات حاملة للمعاني أو لمعان ما، بل هي حاملة لثقافة ولتصوّر عام للشعوب.

وحتى لا نخوض في التجريد، فقط لنضرب على ذلك أمثلة. إنّ مصطلح "صديق مشترك" الذي نجده اليوم في الفيسبوك على سبيل المثال، نفهمه نحن العرب (على سبيل المثال أيضًا) في هذا السياق فقط، أي إذا سمعت عبارة "صديق مشترك" سينطلق ذهني فورًا إلى وسائط التواصل الاجتماعي، لأنّ هذا المصطلح له ارتباط بذلك فقط، فلو قلت الكلمة لرجل أو امرأة لا يستعمل الفيسبوك لن يفهم هذا الأمر. لكن لو قلت الكلمة نفسها مثلًا لرجلٍ أميركي على سبيل المثال، فإنه قد يفهم المعنى الذي فهمت أنا، وقد يفهم معنى آخر، لأنّ المصطلح له ارتباط بالثقافة الأميركية بالدرجة الأولى، ومنها نُقل إلى الفيسبوك، والأمر ينطبق على باقي الأمور الأخرى.

هناك بيت شعري عربي مشهور، يُنسب لامرئ القيس يتوّعد فيه أحد أعدائه، إذ يقول:

 أيَقْتُلُني وَالمَشْرَفيُّ مُضَاجِعِي ... وَمَسْنُونَةٌ زُرْقٌ كأنْيابِ أغوَالِ

من يقرأ البيت اليوم، ربّما لا يفهم ما الفائدة من ذكر لون السيف وأنه أزرق، لأنّ اللون الأزرق ليس له أي معنى اليوم بالنسبة لثقافتنا. لكن لو حاولنا فهم المخيال الجمعي للناس آنذاك، لتوصلنا إلى أنّ الناس كانوا يخشون اللون الأزرق، بل ويسبّب لهم رعبًا، ولعلّ هذا السر في أنهم كانوا يخشون خوض البحار أيضًا. لكن ما يهم هو أنّ اللون هنا كانت له وظيفة، لارتباطه بمخيال جمعي، وكان لهذا اللون دور يؤديه، بحيث إنّه يحيل على الرعب، ولهذا يصف القرآن الكريم المجرمين بأنهم "زرقا"، يوم الحشر حيث يقول الله تعالى في القرآن: "ونحشر المجرمين يومئذ زرقا يتخافتون بينهم".

ليست اللغة عبارات حاملة للمعاني أو لمعان ما فقط، بل هي حاملة لثقافة ولتصوّر عام للشعوب

هذا يجعلني أتساءل عن كثيرٍ من الأمور التي يُساء فهمها اليوم، أو يُساء تقديرها، أو يكثر النفور منها، وذلك فقط لأنّ المترجم أو الناقل لمصطلح معيّن، لم يُحسن اختيار اللفظ المناسب، كما أنّ هناك من يتعمّدون فعل ذلك بغرض الاستفزاز بدون شك، فمثلاً إذا ما أخذنا بعض المصطلحات الكثيرة التداول اليوم في الحقل الفلسفي، بل ومصطلح الفلسفة نفسه، كثيرًا ما يتم الربط بين هذه المصطلحات وقضايا أو أشخاص أو أحداث معينة، مع العلم أنّ هذه المصطلحات ربّما تكون بريئة من كلّ ذلك براءة الذئب من دم يوسف.

لنأخذ على سبيل المثال مصطلح الفلسفة، فغالبًا ما يجري الربط بينه وبين الإلحاد على سبيل المثال، بينما المصطلح لا علاقة له بذلك، ويجري الربط على سبيل المثال اليوم بين تخصّصات علمية معينة والنباهة والذكاء، بينما يُربط بين تخصّصات أخرى والبلادة، لكن الحقيقة خلاف ذلك، لهذا لا بد للمثقفين والباحثين والأكاديميين الذين يهتمون بتوعية الشعوب، أن يحتاطوا من هذه الأمور أشدّ الاحتياط.

على سبيل المثال، يوجد اليوم الكثير ممن يرفضون دراسة أو قبول العلوم المعاصرة، وخاصة العلوم الإنسانية، فلسفة، علم النفس، علم اجتماع، لسانيات إلخ، لا يبعد أن يكون تصوّرهم الخاطئ عن هذه العلوم هو السبب، وذلك لأنّهم يقرنون بينها وبين جماعة معينة، أو أشخاص أو غير ذلك، بينما قد يكون الواقع مخالفاً لذلك، ولا ننسى كذلك مشكلة الإسلاموفوبيا، حيث إنّ الجاليات المسلمة ما زالت تعانى إلى اليوم من تبعات التوظيف السيء لهذا المصطلح. ما يعني في نهاية المطاف، أنّ دراسة المصطلحات وعلاقتها بالمخيال الجمعي مهمة جدًّا، لهذا نجد الأجهزة الإعلامية تُولي هذا الأمر غاية الأهمية، الربط بين المصطلحات وأحداث أو أشخاص معينين، ولهذا المدرسة السلوكية مفيدة هنا، حيث استعملت مفهوم الإشراط الإجرائي.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".