الضيافة كتقبل للآخر

03 مارس 2024
+ الخط -

كلمة ضيافة في اللغة اللاتينية اشتقت منها كلمة ضيف، وكلمة الطبيب، وكلمة الفندق أيضاً، وفي كل منهما معنى الإيواء، والاهتمام بالآخر، وكلمة الضيف أو الضيافة أيضاً في اللغة العربية مشتق منها مجموعة من الكلمات، مثل التضايف، ومعنى الإضافة، يفيد التغاير بين أمرين، لكنهما اجتمعا لمناسبة بينهما، ولذلك استعمل في النحو كلمة المضاف والمضاف إليه، واستعملت كلمة التضايف في أمرين قد يشتركان في أمر ما، مع أنهما قد يكونان متغايرين، وتفسر كلمة الإضافة بلفظة جميلة في اللغة العربية أيضاً وهي الإسناد، أضاف كذا إلى كذا أي أسنده إليه، واعتمد عليه.

المعنى الاجتماعي الذي أخذته كلمة الضيافة لا يختلف كثيراً عن المعنى المعجمي، والتي تفيد إيواء الغريب، وتقديم الطعام والشراب له، ومنه أطلق على الحجاج ضيوف الرحمن، لأنهم في بيته، وجاءت كلمة إقراء الضيف أي تقديم الطعام، وما زلت هذه العادة جارية إلى الآن، والتي من المؤكد أن أصولها ممتدة في الزمان، ومختلفة حسب المكان.

العرب كرماء وكثيرو الإقراء للضيوف، وهذه العادة قد أبدع الشعراء في وصفها عند العرب، ومنها شعر حاتم الطائي الذي غدت قصته بمثابة أسطورة تتداول على جميع الألسن، حتى غدا يُضرب به المثل في إقراء الضيف، يقول في شعره مبيناً أن البشاشة في استقبال الضيوف أهم من إطعامهم:

أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ** ويخصب عندي والمحل جديب

وما الخصب للأضياف كثرة القرى ** ولكنما وجه الكريم خصيب

ويقول أبو العلاء المعري صاحب النزعة التشاؤمية في الثقافة العربية في الضيوف أيضاً: 

أكرم نزيلك واحذر من غوائله ** فليس خلك عند الشر مأمونا

تنام أعين قوم عن ذخائرهم ** والطالبون أذاهم ما ينامونا

والكلام عن معاني الضيافة وفوائدها وشروطها وآدابها يطول فيه الحديث، ويكثر، وليس الغرض هنا ذكر ذلك، بقدر ما الغرض التنبيه إلى أهمية هذه القيمة الأخلاقية التي عاشت مع الإنسان زمنا.

الضيف ضم الغريب وإقراؤه مهما كان هذا الغريب، بل والأكثر من ذلك تأمينه، ولهذا كان الرجل إذا نزل عند قوم وطلب حماهم فإنه يكون آمناً من كل شر

الضيف ضم الغريب وإقراؤه مهما كان هذا الغريب، بل والأكثر من ذلك تأمينه، ولهذا كان الرجل إذا نزل عند قوم وطلب حماهم، فإنه يكون آمناً من كل شر قد يحيط به، أو غدر قد يلحقه والثقافة العربية فيها أمثلة للوفاء بالعهد، وكم من حرب قامت فقط لأن هذه القواعد لم تحترم.

قيل الكثير في نقد هذه الأساليب أو القيم، جرياً على أسلوب جلد الذات من غير تمييز ولا هدف، لكن لمَ لم يُنظر إلى هذه القيم بشكل إيجابي؟ ولمَ لا تستثمر اليوم في إصلاح أعطاب المجتمع الحديث؟ آخر ما قرأت ولفت انتباهي عن هذا الموضوع هو كيف يمكن أن تستثمر هذه القيمة في احتواء ذوي الاحتياجات الخاصة، فهم غرباء عنا صحيح، لكن هذا ليس كافياً للفظهم أو للتخلص منهم، لمَ لا يقبلون كما هم فقط؟ وذلك باستثمار هذه القيمة.

ربما لسنوات طوال، وبشكل خاص أثناء الحقبة الاستعمارية، كانت هذه القيمة تستغل من قبل المستشرقين الذين كانوا يتلصصون على حيوات الناس مستغلين طيبتهم، ولم يكن يهمهم غير إدراك حقيقتهم وتفكيرهم، ربما ولد هذا الأمر نوعاً من الشعور بالذنب، أو الإحساس بنوع من السذاجة والبلادة، وهذا ما شدد على التحرز والتحوط من كل شيء، هذا على المستوى الاجتماعي البسيط طبعاً، لكنه بعد ذلك ينتقل إلى مستويات أخرى، ويغدو كأسلوب عام في الحياة، أستحضر هنا فيلم ملكة الصحراء الذي يحكي قصة جيرترود بيل، وكيف أنها والوفد المرافق لها كانوا يستفيدون من هذه القيم التي كانت تسود المجتمع العربي.

المجتمع اليوم أحوج ما يكون إلى مثل هذه القيم، وذلك بعد الإخفاقات المتتالية لقيم الجبروت التي أعلنتها الحضارة المعاصرة، ولهذا بدلاً من أسلوب جلد الذات والتنكر لقيم أصيلة تقدم أحد أروع الجوانب الطيبة في الإنسان، ينبغي استثمارها اليوم، في مشاريع الإيواء، أو على الأقل نشرها بين الناس، وجعلهم يقتنعون بأن الآخر مهما كان مختلفاً عنهم فإنهم في حاجة إليه، وهو في حاجة إليهم أيضاً، وما هذه القسوة والعنف الذي يسود العالم، في الحقيقة، إلا مجرد رفض للآخر، ومن ثم اعتباره عدواً محارباً مضطهداً، وليس له الحق في الحياة.

سفيان
سفيان الغانمي
باحث في الفكر الإسلامي، حاصل على الإجازة في علم النفس، وباحث في سلك العالمية العليا التابع لجامع القرويين بفاس، مدون مهتم بالفكر والأدب. يعرّف عن نفسه بالقول: "حبر الطالب أقدس من دم الشهيد".