الفلسفة كأداة لـ"أكل العيش"
قادني فضولي منذ عدّة أشهر إلى حضور إحدى الندوات المقامة في إحدى المكتبات بعنوان "الفلسفة كأداة للعيش". كان المتحدث في تلك الندوة يَظهر عليه تبتّل كتبتّل الرهبان كما لو كان يُلقي عظةً ما. كان حديثه منصبّاً على تقديم نصائح، يمكن للمرء بها أن يحسّن من جودة حياته، وكان مرجعه في تلك النصائح أقوال يقتبسها عن الفلاسفة من شتّى المشارب والمذاهب، اقتباسات مثل "الألم لا ينشأ من الشيء نفسه، لكن من تصوّرك عنه"، وغيرها من الاقتباسات القديمة والحديثة. وجدت أنّ عنوان تلك الندوة ليس دقيقاً، فلعل العنوان الأقرب إلى الدقة هو "الفلسفة كأداة لأكل العيش".
يلحظ الكاتب ويليام ديفيس، في مقدمة كتابه "صناعة السعادة"، ظهور راهب بوذي في مؤتمر دافوس الاقتصادي وتقديمه نصائح للتأمّل والاسترخاء. يشير ديفيس إلى أنّ "مستقبل الرأسمالية الناجحة يتوقّف على قدرتنا على التصدّي للضغوط النفسية، والبؤس، والمرض، ووضع الاسترخاء والسعادة والصحة بالمكانة اللائقة". الاهتمام بتلك المشكلات لا ينبع، كما يرى المؤلف، من اهتمام بالإنسان ذاته، بل الاهتمام بالخسائر أو المكاسب الضائعة التي تسبّبها تلك المشكلات.
من ثم إذن، تُعامل الفلسفة والدين باعتبارهما مادة خام يشكلهما أصحاب المصالح كما يشاؤون لإنتاج سلع متنوعة تلبّي حاجات الزبائن. لن تجد الكثير من الاهتمام إذا تحدثت عن طبيعة الوجود أو المعرفة أو الأخلاق، ولكنك ستجد الكثير إذا قدّمت حديثك باعتباره خلاصاً من القلق والحزن والاكتئاب وغيرها من الأزمات والمشكلات، وذلك الاهتمام يمكن ترجمته إلى مبيعات ومشاهدات أو غيرها من المصالح الظاهرة أو الخفية. ازدهر ذلك الشكل من أشكال التسليع للفلسفة، إذ بإمكانك الذهاب إلى المكتبة القريبة لتجد فيها كتاباً عن كيف يمكن للفيلسوف الفلاني أن يساعدك على التخلّي من القلق أو يساعدك الفيلسوف العلاني على تحقيق حياة زوجية مستقرة، والأمر قابل للتطوّر بتطوّر حاجات القرّاء.
لن تجد الكثير من الاهتمام إذا تحدثت عن طبيعة الوجود أو المعرفة أو الأخلاق، ولكنك ستجد الكثير إذا قدّمت حديثك باعتباره خلاصاً من القلق والحزن والاكتئاب وغيرها من الأزمات والمشاكل
ما المشكلة إذاً في إسداء مثل تلك النصائح، خاصة إذا ما كان لها أثر إيجابي على حيوات البشر بالفعل؟
في الواقع، لا مشكلة. لكنّي أرى مشكلة في اعتبار تلك الممارسة شكلاً من أشكال الفلسفة. من الصعب تقديم تعريف للفلسفة يلقى إجماعاً عند المشتغلين بها، ولكن الفلسفة، كما أفهمها على الأقل، تهدف إلى فهم أصول وجواهر الأشياء، ومن ثم يمكنك التعامل معها. المشكلة تكمن في تقديم الفلسفة باعتبارها أداة للعيش أو دواء أو عزاء، وبهذا الشكل نضع العربة أمام الحصان، أي نضع طريقة للتعامل مع الحياة دون أن ندري ما الحياة أو ما غايتك منها.
رغم ذلك، قد نجد سنداً لذلك التوّجه عند بعض الفلسفات، ولكن هل أصحاب تلك الممارسة يعتنقونها؟
لا أعتقد، ربما لو حدثتهم عن توجّههم لقالوا لك إنهم يرفضون التمذهب، لأنّ التمذهب يعمي المرء عن الحقيقة، وفي ذلك شيء من الصواب. لكن المهم ليس هو التمذهب، بل التمنهج، لست أدري إن كانت تلك الكلمة مما يقبلها اللسان العربي، ولكني أعني بها اتباع منهج ما. يجب على المتفلسف إذا رغب في أن يكوّن رأياً أن يكون له منهج في التعامل مع المشكلة، لا أن يجمع الأشتات والخرق وينسج منها رأياً يُناسب مقاسه. ولست أعني أنّ على المرء أن يتبع منهجاً مقرّراً، بل إن شاء أقام لنفسه منهجاً خاصاً.
لا أعني أنّ أنصار "فلسفة أكل العيش" محتالون أو أشرار بالضرورة، قد يكون الهدف منها الوصول إلى قاعدة أوسع من القراء بهدف إثارة شيء من الاهتمام بالفلسفة، أو تحقيق مبيعات، أو شهرة، أو كلّ تلك الأهداف مجتمعة. وفي الواقع أصبح الوصول إلى قاعدة أكبر من الجمهور هدفاً مهمّاً من أهداف الكتّاب والعلماء والفلاسفة والفنانين.
قديماً، كانت تلك الفئات عادةً ما تجد راعياً من السادة يعيشون في كنفه، لكن اليوم انزوى هذا الشكل من أشكال الرعاية لأسباب عدّة، منها نشوء طبقات وسطى قوية وتحوّل الكثير من البلاد إلى الديمقراطية، وهذا ما لم يحصل كثيراً في بلادنا، حيث تغيّرت ذات السيد الراعي من صورة فردية إلى صورة جماعية، فالسيد الجديد هو الجمهور.