العقل والكارثة

16 سبتمبر 2023
+ الخط -

عندما تقع الكارثة، أو تقع في الكارثة، ينبغي لك أن تتجه فوراً إلى ما بعدها لأجل الحدّ من آثارها السلبية. أمّا أن تتسمَّر على عتبة الصدمة، وتفتش بكلّ أسىً وتذمُّر عمّا يُبرّر وقوعَ الكارثة أو وقوعك فيها، فهذا مجرّد نكوص إلى اللاوعي البدائي عندما كان الإنسان يعتقد أنّ الطبيعة تُعاقبه على تصرفاته. غير أنّ خطاب التبرير يزيد من حجم الخسائر، وذلك بصرف النظر عن النيات والخلفيات.

مثلاً، في القرون الوسطى، كان تبرير الأوبئة بالمعصية يدفع الناس إلى التكدّس في المعابد طلباً للغفران، وهو ما كان يُساهم في تفشّي الأوبئة. مع الأسف، فهذا النوع من التبرير لا يزال يمارسه البعض، أملاً في الهيمنة على "الأرواح الآثمة".

البحث عمّا يبرّر الكارثة إجراء لا علمي ما دام دور العلم أن يُفسّر لا أن يُبرّر، وهو كذلك إجراء لاأخلاقي طالما يضعف القدرة على مواجهة الكارثة، ولا يقدم في النهاية أيّ عزاء للضحايا.

وبالفعل، ففي عالم العولمة الإعلامية اليوم، حيث يشاهد كلّ إنسان في كلّ مكان، كيف تحدث الكوارث لأيّ إنسان في أيّ مكان، دون اعتبار لأيّ نوع من المعايير، فإنّ محاولة تبرير الكوارث لم تعد تقدّم أيّ عزاء للضحايا.

عند وقوع الكارثة، أو الوقوع في الكارثة، لا ينبغي البحث عن أيّ شكل من أشكال التبرير، إذ إنّ الشرّ لا يمكن تبريره. فلا شيء يبرّر الشر.

الشر نفهمه لكننا لا نبرّره.

إنّ الصمت المفعم بالتأمّل أو الخشوع لهو الإجراء الأولي الذي يتخذه العقل تلقائيا أمام الفاجعة. الصمت صلاة العقل. لكن ماذا بعد؟

الكارثة ليست شيئاً يأتي إليك لكي يصيبك، فقد لا يكون مصطلح المصيبة دقيقاً. ولحسن الحظ، فإنّ الناس من تلقاء أنفسهم لم يعودوا يستعملونه، غير أنّ الكارثة لحظة عليك أن تجتازها إلى ما بعدها، وكلّ الرهان أن تجتازها بأقل الخسائر الممكنة، وأحياناً بغير قليل من المكاسب.

مشكلتك أنّ وعيك النقدي يهتزّ بشدّة في أثناء اللحظات الأولى للكارثة، بل ينهار أحياناً مثلما قد تنهار الأبنية والمنشآت من حولك.

الوعي النقدي هو الضحية الأولى للكوارث الطبيعية، حين تنبعث في النفوس كلّ المخاوف البدائية للإنسان. لذلك كانت الكوارث خلال العصر الوسيط فرصة سانحة لتفشّي الخرافة وسلطة الكهنوت، لكنها الفرصة التي كان ينتظرها الكثيرون انتظارهم للفرج!

هناك اعتراض متوقّع، ففي أثناء الفاجعة قد لا نحتاج إلى الوعي النقدي، لكنّنا أحوج ما نكون إلى المشاعر والروحانيات. ذلك صحيح بمقاييس العقل أيضاً.

إنّ الصمت المفعم بالتأمّل أو الخشوع لهو الإجراء الأولي الذي يتخذه العقل تلقائياً أمام الفاجعة. الصمت صلاة العقل. لكن ماذا بعد؟

إذا انهار كلّ شيء من حولك، ولم تنهر أنت، سيكون بوسعك أن تعيد بناء كلّ شيء

الوعي النقدي الذي ينتكس في أثناء الرعب، يجعل الناس عرضة لتصديق أيّ شيء، ما يؤثر سلباً في إمكانية الحدّ من آثار الكارثة، علماً بأنّ عصر الثورة الإعلامية قد جعل تداول الأخبار منفلتاً من عقاله. لقد أصبح دور الرقابة التقليدية محدوداً جدّاً. هنا لا مجال للأسى، غير أنّ الأمل الباقي هو تنمية الحسّ النقدي لدى المواطنين كافة، بما يكفي لكي يصبح المواطن محصّناً من سموم الأخبار الزائفة والمضلّلة، التي غايتها إغراق المجتمع في الرُّعب الذي يُضعف القدرة على التدبير العقلاني للأزمات.

لحسن الحظ أنّ الناس اليوم، حتى في أثناء الكارثة، أصبحوا أكثر ثقة في الخبراء، وذلك رغم إدراكهم بأنّ العلم نسبي ولا يجيب إلّا عن القليل من الأسئلة، إنهم رغم عدم إنكارهم لمبدأ القوة الإلهية، يتصرفون في الواقع على أساس مبدأ الأسباب الطبيعية.

إلَّا أنّ قابلية الانتكاس واردة بنحو قد لا يكون متوقعاً، ما يبرّر الحاجة إلى ترسيخ الوعي النقدي عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ومنتديات الحوارات والمواطنة.

على منوال البيوت والبناءات التي ينبغي أن تصمد أمام الزلازل والكوارث، لئلا تنهار، ينبغي ألا تنهار العقول أيضاً، ولا سيما أنّ الكوارث الطبيعية قد تتزايد بفعل التقلبات المناخية.

وهكذا أقول لك: إذا انهار كلّ شيء من حولك، ولم تنهر أنت، سيكون بوسعك أن تعيد بناء كلّ شيء. قد تفقد أبناءك كلّهم، وإنه لألم كبير يستعصي على المواساة، لكنّ الحياة التي ستأذن لك بالبكاء سترغمك على كفكفة دموعك لكي تُعاود الإنجاب إن أمكنك، أو تعود إلى الحياة ما أمكنك.

إنها إرادة الحياة.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصاً حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
سعيد ناشيد
باحث مغربي في الفلسفة والإصلاح الديني، ورئيس مركز الحوار العمومي والدراسات المعاصرة (الرباط). صدر له عدد من الكتب، منها "التداوي بالفلسفة"، و"دليل التدين العاقل"، و"قلق في العقيدة" و"الوجود والعزاء". له مساهمات في بعض المؤلفات الجماعية، من بينها: كتاب بالإنجليزية تحت إشراف المستشرق البريطاني ستيفن ألف، بعنوان Reforming Islam:Progressive Voices From the Arab Muslim World، 2015.
سعيد ناشيد