لئلّا تستنزف قوتك
سعيد ناشيد
قد تشعرُ بتعبٍ لا تعرفُ سببه، فلا ينجمُ عن مرضٍ يزولُ بزواله، ولا يشبهُ التعب الذي يعقب حصة رياضيّة شاقة أو سفرًا طويلًا، فتكفي استراحة قصيرة لزواله، بل إنّه تعب غائر في أعماقِ الوجدان. وكما قال شارل بودلير في رسالة شكوى أيّام شبابه: "لم أعد أتحمل تعب الّليل، وتعب الاستيقاظ". هذا ليس عرضًا للحداثة كما قد يذهب بك الظن، بل انعكاسًا للوضع البشري في كلِّ العصور. وكما قال شاعر عربي قديم، هو أبو العلاء المعري: "تعبٌ كلّها الحياة".
"لقد تعبتُ"، "تعبتُ من كل هذا".. عبارات شائعة في حياتنا اليوميّة، قد يقولها الزوج أو الزوجة، الأم أو البنت، الأعزب أو العزباء، العامل أو العاطل، السيّد أو الخادم، قد تقولها أنت بالذات في لحظاتِ شعورك بالإنهاكِ الشديد. غير أنّ الإنهاك هنا أكبر مما قد يظهر، ليس مجرّد تعب من الحياة الأسرية، المهنية، أو الاجتماعية، بل تعب من الحياة برمتها. إنّه استنزاف للقدرة على الحياة.
ما الذي يستنزفك؟
يعرفُ الحيوان بنحوٍ غريزيٍ كيف يحفظُ طاقته. فأثناء الصيد يختارُ اللحظةَ المناسبة والأسلوب المناسب لكي يبذل أقلّ ما يمكن من الجهد، حين يدخل في عراكٍ يحاول أن ينهي الموقف سريعًا، وبالحدِّ الأدنى من القوّة المناسبة، ثم يتوقّف عند لحظةِ الإنهاك فلا يُكابر. وحين يمرض يسترخي فلا يستنزف طاقته الباقية في الغضب والتشنّج والأنين. لا يقطع الحيوان إلّا المسافة الضرورية لحاجته والمناسبة لجهده، لا يحزن إلّا لفترةٍ قصيرةٍ حتى لا يصيبه الوهن، لا يغضب إلّا لزمنٍ قصير حتى لا يصيبه الإنهاك، لا يرتاح إلّا بالقدرِ الذي يحتاجه حتى لا يصيبه الخمول، وما أن ينقصُ طعامه حتى يطول نومه لتوفير الطاقة. تلك القدرة الغريزية على تدبير طاقة الجسد قد ضيّعها الإنسان في سياقِ التطوّر البيولوجي، ولذلك يهينُ عليه أن يستنزف طاقته في أفعالٍ وردودِ أفعالٍ مجانية، أو يجهد نفسه في أعمالٍ كان يمكن تدبيرها بجهدٍ أقل، أو يتشنّج أثناء العراك، فيستنزف قوّته قبل بدء العراك، وذلك ما أراك تفعله بدورك في كلِّ معارك الحياة اليوميّة.
على خطى التطوّر تراجعت القدرة الغريزية على تدبير طاقةِ الجسد، إلى أن صار الإنسان على ما هو عليه، الحيوان الوحيد الذي قد يحتاج إلى النوم ولا ينام، قد يحتاج إلى الراحة ولا يرتاح، قد يحتاجُ إلى الطعام فيأكل ما يؤذيه، أو بنحو يؤذيه. لذلك كلّه يمثّل الوعي تعويضًا عن ضعفِ القدرة الغريزية على تدبيرِ طاقة الحياة، غير أنّ فاعلية الوعي هي ثمرة تمارين طويلة.
لا يولد الإنسان كاملاً مكتملاً، بل يلزمه أن يتعلّم الكثير حتى يصير إنساناً
لا يولد الإنسان كاملًا مكتملًا، بل يلزمه أن يتعلّم الكثير حتى يصير إنسانًا. الإنسان مشروع متواصل، مع أنّه لا يكتمل طالما الموت يقطعه كما كان يقول سارتر، إنّه مشروع شاق وعسير، قد يستنزف طاقة الإنسان في مقتبل العمر كما يحدث للأكثرين، فلا يواصله إلا القليلون. غير أنّك ينبغي أن تواصله.
فكيف يمكنك أن تواصل الحياة دون أن تستنزف قدرتك على الحياة؟
تولد الحيوانات بمهاراتٍ فطرية تخصّ النوع الذي تنتمي إليه، لكن وحده الإنسان يحتاج إلى أن يتعلّم كيف يصبح إنسانًا: يمشي على قدميه، يقلّم أظافره، يربط الأزرار بيديه، يتكلّم بلطفٍ ووضوح، يجلس بأدبٍ، يقف في الطابور باحترام، يأكل بنظامٍ وانتظام، يكتب، يرسم، يعزف، يحن إلى الماضي، يتوجّس من المستقبل، يتنافسُ من أجل الدراسة والعمل والحبّ، ويعرف فوق ذلك كلّه أنه سيشيخ قريبًا أو يموتُ في أيّة لحظة. هذا كلّه مُتعب للجسد والوجدان. لذلك ليس من السهل أن تكون إنسانًا. المهمة شاقة ومنهكة إلى درجة أنك قد تحتاج إلى فترات ترتاح فيها من إنسانيتك، فترات من الهمجية والنهم والصراخ والعويل، فترات من التشنّج الهستيري، فترات من الشطح والجذبة والهذيان، فترات من التوحش عبر استيهاماتٍ قد تبدو مبدعة، وقد تبدو مجرّد فلتات خطرة.
غالبًا ما ينجم شعورك بالإنهاك عن أسلوبك في الحياة. إنّ قدرتك على المشي مسافة طويلة، أو صعود قمّة شاهقة، هي أعمال لا تتوقف على متانةِ العضلات والمفاصل والقلب وحسب، لكنها تتوقف على الأسلوب أيضا: كيف تمشي، وما الذي تفكّر فيه أثناء المشي؟ بمعنى كيف تستعمل جسدك، عقلك، وخيالك، أثناء عملية المشي؟ والمبدأ نفسه يصدق على علاقتك بكلِّ صعوباتِ الحياة.
لذلك كلّه، كلُّ ما عليك في هذه الحياة هو أن تجد أسلوبك الذي يناسبك.