العرب في تركيا وأيديولوجيا اللغة
إنّ علماء اللّغة منزعجون من الواقع اللّغويّ الذي تفرضه الكيانات الحاكمة من سياسات تؤول في نهاية المطاف إلى اضمحلال اللّغة العربيّة في مناطق عدّة، وربما تؤول الأمور في بعض الأحيان إلى موتها واندثارها.
وإنْ كان توجه المختصّين باللّغة منبعه الحنين والحميّة القوميّة، فإنّ الانخراط في كوامن الموضوع تتطلب منّا الذود عن تلك المشاعر، فلا بدّ من الاحتكام إلى منظومة الوجود الجماعي في البلد المُستضِيف. ومن الجدير بالذكر أنّ اللّغة والسياسة ثنائيان متلازمان، كلاهما يتجاذب الآخر، وإنْ وقعتَ في حيرة من أمركَ بما يخصّ التلازم بينهما؛ فحسبكَ التفكّر جيدًا فيما وراء الخطابات والحوارات السياسية ثم سيأتيك اليقين بشكل أو بآخر، ظاهرًا أو خفيًا.
إنّها اللغة ذات سلطة ونفوذ، ومن المنطقي أننا لن نجد الساسة يصوغون نثرًا وينشدون شعرًا، إنّما سنجدهم في جلّ خطاباتهم وشعاراتهم يقولون من الكلام ما يُتيح لهم تشكيل العالم وإدارة حياة الشعوب، وهذه الخطابات تتشكّل بالضرورة من اللّغة ومتعلّقاتها.
وهكذا انتقل الموضوع من الإطار الفكريّ الفلسفي إلى إطار سياسي، إذ يتشعب الموضوع في هذا السياق إلى قسمين: الأول يتناول وصف الواقع اللّغويّ للعربيّة كما هو، أمّا القسم الثاني فهو استشراف لما سيؤول إليه المشهد اللّغويّ مستقبلًا.
وحديثنا هنا يدور حول المشهد اللّغويّ الذي يتعامل به اللاجئ العربي في تركيا، فإنّنا اليوم نرى اللاجئ العربي مُجبرا على تعلّم اللّغة التركية والتعامل بها في شتى ميادين حياته، وهذا وإنْ لم يكن إجبارا بالقانون، فإنّه اختيار لا بدّ منه؛ كي يستطيع الاندماج في المنظومة التي يعيش فيها ويعتاش منها. ولعلّ ذلك من ضرورات العيش في تركيا، على اعتبار أنّ المواطن التركي يعتزّ بلغته ولا يؤمن بأفضلية غيرها. وهذا من باب القومية عند الشعب التركي، وليس في هذا انتقاص من موقفهم، إنّما الإشكالية (وفق تصوّرنا) تكمن في اضطرار اللاجئ العربي إلى استبعاد لغته العربيّة في معظم المعاملات والتعاملات، إنْ لم تكنْ كلّها، والمقال هذا ليس امتعاضًا من المحافظة على اللغة التركية في تركيا؛ إنَّما القصد هو وصف حال العربيّ المقيم في تركيا، وخصوصية الحالة اللغوية التي نشأت بين اللغتين العربية والتركية.
ولا يكاد يساورنا شك أنّ تعلّم التركية ضرورة من ضرورات العيش في تركيا، إلا أنّنا نتساءل "إلى أين تتجه العربيّة في ظلّ الواقع المفروض على الجالية العربية المقيمة في تركيا ولا ملاذ آخر لها؟".
ولعل أفضلية الحديث هنا ستكون أكثر جدوى في التمحور حول الفئة المولودة في تركيا، وقد نشأت في إطار لغويّ تركيّ يتخلّله بعض العربية التي يستقيها من الأهل دون قصد أو تأطير. فالطفل الذي لجأ أهله إلى تركيا ثم وُلدَ فيها ونشأ في مدارسها وتعلّم التركية دون غيرها؛ فإنّ النتيجة حتمًا ستكون تنحي العربيّة، وإنْ بدا لنا مؤخرًا أنّ بعض المدارس التركية تُدرِّس مادة اللغة العربية؛ فإنّها تُدرِّس للمراحل العليا أسس العربية من حروف وتكوين كلمات، وهذا لا يُنشئ طالبًا لديه تكوين لغويّ كافٍ بالعربية.
لن نجد الساسة يصوغون نثرًا وينشدون شعرًا، إنّما سنجدهم في جلّ خطاباتهم وشعاراتهم يقولون من الكلام ما يُتيح لهم تشكيل العالم وإدارة حياة الشعوب
غير أنّ الرؤية السياسية للدولة التركية المعاصرة ارتأت أنّه من الضروري أنْ يتعلّم أبناؤهم تعاليم الإسلام من خلال تعلّم القرآن الكريم، وهذا بالضرورة يستلزم تعلّم العربية، وقد جاء هذا وفقًا لواقعهم وتطلّعاتهم لحلّ الإشكالية من وجهة نظرهم، وتُسمَى هذه المدارس بـ"مدارس إمام خطيب"، وإنْ بحثنا في جذر هذه المدارس؛ فسنجد أنّها مرحلة تطويرية ناتجة عن إدماج ما يُسمّى بـ"مدرسة الأئمة والخطباء" مع "مدرسة الواعظين"، ثم افتتاح "مدارس الرشاد" عام 1913، وكان ذلك في إطار الدولة العثمانية التي تشجّع على التربية الدينية. لكن بعد أن ألغيت الخلافة العثمانية تمّ إلغاء هذه المدارس وفق دواعي العلمانية، إلى أنْ وصل يومنا هذا وقد عبّرت السلطات التركية عن أملها في التربية القائمة على تعاليم الدين الإسلامي دون تصريح نصّي أو محكي، ودون الخوض في تفاصيل المسألة التركية، فإنّ تلك المدارس شكّلت مخرجًا للاجئين العرب من ضائقة يعانون منها، إلّا أنّ هذا لا يُعتبر كافيًا، فالمعلمون الأتراك أنفسهم لا يتمتّعون بالتّمكن من العربيّة وأسسها، وهذا تحدٍّ آخر يواجه اللاجئ العربيّ في تركيا. فما الحل؟
من وجهة نظرنا أنّ الحل يتشكّل من خلال وعي الأهل أولًا، بضرورة تعليم العربيّة لأبنائهم وعدم التهاون في ذلك. ثانيًا، لا بدّ من الهمّة والجدّية بإلحاق الطالب في مراحله الأولى بمدارس عربية، وإنْ لم يتوّفر ذلك فيلزم إيجاد معلم لغة عربيّة يؤسّس الطفل جيّدًا، ويُكَوِّن لديه القاعدة اللّغويّة على اعتبار أنّ العربيّة هي اللّغة الأم. ثالثًا، وهذه هي النقطة الأهم، ضرورة تحدّث الأهل مع الطفل بالعربيّة دائمًا.