فريضة التفكير وفرضيَّة التّلقِّي
لا شكَّ أنَّ النظريّة العالميّة التي أطّرت للفلسطيني تموضعه ضمن قوالب جاهزة قابلة للتعديل، وفق رؤيتها الانتفاعيّة وقتما وحيثما تشاء؛ ساهمت في جعلِ المعادلة أكثر تعقيدًا، وقد ساقنا إلى استقراء هذه الجزئيَّات ما رأيناه من فجوةٍ تُضعِف المسألة الفلسطينيَّة عمومًا، وجاءت الحرب الإسرائيليَّة الأخيرة فاتَّضح البون الشاسع بين القضيَّة والوعي بحيثياتها، وهذا لا ينفي وجود المثَّقَف الفلسطينيّ العارف ودوره الكبير في معركةِ الوعي ومقاومة السرديّة الصهيونيّة المُبتَدَعَة، لكنّ المعضلة هنا هي تشكيل الوعي الشعبويّ وتعديله كلّما انحرف عن الطريق، إذْ إنَّه من المنطقيّ وبحسب التحليلات العقلانيّة أنَّ تراكميَّة الغضب (بعد تسعة أشهر من المحرقة والإبادة المستمرة في قطاع غزّة حتى يومنا) هذا ساهمت بتشكيل الوعي عند المُتفرِّج العربي حصرًا، على اعتبار وحدة اللّغة والدين والمعطيات الاجتماعيّة التي تربط غزّة بالعالم العربي ممثّلًا بشعوبه إنْ أردنا إقصاء الساسة من المعادلة. وإنْ كانت نتيجة الوعي الحاصل لا ترقى إلى الفعل المطلوب؛ فالوعي عامل مهم في القضايا الكبيرة، ولا شكّ أنّه يتحكّم بشكل كبير في حتميَّة النتائج.
لكنّ المفارقة الحاصلة أنّ هناك عطبًا كبيرًا في عقليّة الشعوب! إنْ كانت صورة نعل مقاوِم تجعلنا نشعر بالنشوة والاحتفال بتضحياتٍ لم نخسر فيها مقدار أنملة، بينما صور الأطفال المتفحِّمة والرؤوس المقطَّعة جعلت البعض يشيح بوجهه حفاظًا على نفسيته من الخدش، والبعض الآخر تكرّم على الغزّيين بالجملة المشهورة "لا نملك سوى الدعاء". ذلك لا يعني أنّهم بلا عواطف؛ إنَّما يعني فقدانهم لإعمال العقل والبحث في إيجادِ حلولٍ، وأحد أسباب ذلك سيلان المادة الإعلاميّة التي اخترقت وعينا بالقضيّة الفلسطينيّة عمومًا والغزّيّة على وجه التحديد، التي بدورها حوّلت المُشاهد عبدًا للحظة الراهنة فقط، وجعلت من نسيان الصورة سبيلًا أوحد لنسيان الفكرة والدافع. وكأنّ تلك المشاهد تُعرَض أمام جمهور مُخدَّر لا يعي ما يرى.
وفي معرض حديثنا عن الحرب الإسرائيلية على غزّّة نشير إلى فريضة التفكير التي جعلت كلّا منا محطّ استفهام واستجواب، فهل فعلَ كلّ واحد منَّا ما في وسعه حتى تسقط الحُجّة عنه؟ هل فعلنا ما بوسعنا كي نحافظَ على ماءِ وجوهنا؟
كلّ طائفة نائمة على أفكارها ومعتقداتها الأبديّة ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها أو مناقشتها
هذه مرحلة تسميّة المسمّيات بأسمائها دون تنميق ونفاق ومجاملة. وهذا الحال وهذا العجز حصاد التفاهة والتفلّت والتربية على الأنانيّة، وجهل المربين بأسس تنشئة إنسان واعٍ حرٍّ لا متلقِّف للأفكار والمعتقدات معلَّبة. بمعنى آخر لا يمكن التسامح مع الجهل والجمود والتخلّف، هذه العقول المحنّطة عالة على الكوكب؛ فكلّ طائفة نائمة على أفكارها ومعتقداتها الأبديّة، ولا تسمح لأحد بالاقتراب منها أو مناقشتها، لأن ذلك اعتداء على ذواتها! وبمجرد أن تقترب من هذه النقطة تشتغل شيطنة النفوس، ممنوع منعًا باتًا أن تناقش وتختلف.
مسموح لك بأن تناقش في شأن الصين واليابان وروسيا وفرنسا والانحلال الغربي وأثر غزّة في العالم أجمع؛ لكن لا يسمح لك بأن تناقش وتنتقد الوسط العربي الغارق في العفن والسفاهة. ممنوع أن تذكر عيوب المجتمع التي آلت إلى نتائج كارثية في قضيّةٍ كهذه. وجارح جدًا أن تنتقد العامّة على اعتبار أنّهم خارج المعادلة، وليس بأيديهم سوى التعايش مع واقعهم والانطلاق إلى حيواتهم دون الاكتراث. والأكثر مأساوية بالنسبة للمُتفرِّجين هو تسمية الأشياء بمسمّياتها؛ فذلك يصيب النفس في مقتل.
ومع هذه المفارقات العجيبة أيضًا، أنت مطالب كمثقّف أن تجد حلولًا لمجتمعٍ أصمّ باختياره، ولذلك نجد الكثير من المثقفين اليوم، يختصرون كثيرًا من الجدل العقيم بالمدارة والترقيع والمداهنة والإشارة إلى الأمور من بعيد كنوعٍ من تخدير المرض لا علاجه!
والسؤال الذي يطرح نفسه إلى متى ستظل عملية المناورة والكذب على الذات؟ هل يمكن حلّ المشاكل العالقة بطمسها أو تأجيلها إلى ما لانهاية؟!