الذباب ومحاولة خنق المقاومة
تحدثنا وكتبنا كثيرًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عن تصاعد التضامن مع فلسطين عربيًا وإسلاميًا، وحتى غربيًا، وتحوّل التضامن إلى موجة عارمة، تصاعدت لتتحوّل إلى حالة من بناء الوعي، وخاصة في مجتمعات كانت أبعد ما تكون عن القضية الفلسطينية وتاريخها. لكن، وعلى الرغم من هذه الموجة، إلا أنّنا نجد الكثير من أصوات "النشاز"، التي لم تكتفِ بالتغريد خارج السرب، بل عملت على تزييف الحقائق وقلب الوقائع، والوقوف في صف الجلاد، وبكلّ أسف لم يعد هؤلاء من الذباب فقط، فمنهم أصحاب شهادات عليا وإعلاميون ووعاظ، يسوقون حجج الذباب ذاتها، ولكن بقوالب أكثر رصانة في بعض الأحيان.
ويمكن لمن يتصفح وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أن يصادف الكثير من هذه الحسابات، التي تتحدث بلسانٍ عربي، ولكن بمنطقٍ صهيونيّ، وكأنّها منظومة من الذباب تُدار في "تل أبيب"، ويقودهم أفيخاي أدرعي أو كوهين وغيره. ومما يجدر ذكره، وجود مثل هذه المجموعات الأمنية، ومنها مركز في جامعة هرتسليا شمال تل أبيب، يقدّم دورات تدريبيّة للطلاب الإسرائيليين، تركز على التغلغل في وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن سياسات دولة الاحتلال، ونشر "الفتن والمشاحنات" ما بين العرب والمسلمين، وعلى شيطنة المقاومة، وكلّ من يساند القضية الفلسطينية. وبحسب المعطيات المتوّفرة، يغطي المركز 31 لغة، ويتم دعم هذه الجهود من قبل رئاسة حكومة الاحتلال ووزارتي الخارجية والدفاع في هذه الحكومة.
حسابات على وسائل التواصل تتحدث بلسانٍ عربي، ولكن بمنطقٍ صهيونيّ
ولكننا على إثر "طوفان الأقصى"، نجد تضخمًا في عدد الصهاينة العرب وخطابهم، فتارةً يتحجّجون بعبثية المقاومة، وعدم قدرتها على ردّ العدوان بناء على تحليل ميزان القوى الصرفة، وتارةً أخرى يتحدثون بلسان المشفق على الضحايا، ملقين اللوم على المقاومة، وأنّها من أطلقت شرارة هذه المعركة، ولا يتوقف الطعن عند حدّ بعينه، فمن يطعن في قيادة المقاومة لوجودها في قطر أو تركيا، في مقابل من يشيطنها لأنها تتلقى الدعم من إيران. وما بين هذا وذاك، إسقاط وإسفاف، وقراءة مجتزأة لواقع المقاومة واضطرارات الواقع، وما جرى في الإقليم في السنوات العشر الماضية.
وربّما يشكل استخدام البعض للخطاب الدينيّ، أكثر تلك الأطروحات قتامة، ففي الوقت الذي يرتكب فيه الاحتلال مجازر متتالية، وتتضافر النصوص التي تؤكد أهمية النصرة والأخذ على يد الظالم وحُرمة الدم، وعظيم جريرة المعتدي، يتصيّد البعض ويختار ما يوافق غرضه من نصوص وعبارات، ويصبّ جام حقده على المقاومة، ويحاول قراءة ما تقوم به من بوابة "الفرقة الناجية" فيطرح تساؤلاتٍ على غرار "هل حماس من الأمة"؟ وهل هم "من أهل السنة والجماعة"؟ وآخرون يتحدثون عن علاقات فصائل المقاومة "المشبوهة" بالدول في الإقليم، وصولًا إلى السخرية منها ومما قامت به، في تكرارٍ مريب لحجج وذرائع ليست مقبولة البتة.
يحاولون خنق المقاومة والقضاء عليها في غزة، ولكنهم سيفشلون
ومع وجود حالة من تضافر الجهود لتحريف الحقائق، لم نعد نستغرب ما تنشره وسائل الإعلام العبرية عن وجود دولٍ عربية تدفع نحو القضاء على المقاومة، وتؤيّد ما يقوم به جيش الاحتلال سرًا وعلانية. وفي سياق التشويه، تنشر لجانها الإلكترونية وأسراب الذباب التابعة لها لشيطنة كلّ فعلٍ تقوم به المقاومة، وتنقسم ما بين المشفق والمخوّن أو الخبير والغيور على الدين. ولكن أطروحاتهم جميعًا، تصب في مصلحة المحتلّ، وتبرير جرائمه، وتشتّت الجهود، في الوقت الذي يصل فيه التضامن مع فلسطين وغزّة إلى مستويات غير مسبوقة، وخاصة في الغرب.
في النهاية، لا ضرورة للتأكيد مجددًا بأنّ هذه الأصوات على الرغم من صوتها المرتفع تظلّ "نشازًا"، وأنّ غالبية الأصوات الحالية تُعلي من المقاومة وما قامت به، وتؤكد بأنّها وسيلة الفلسطينيين لنيل حقوقهم، ومن ثمّ حريتهم. ولكنني لا أجد أنّ محاولة مواجهة هؤلاء مجدية أو ممكنة، بل تستنزف إمكانيات يجب أن تُستخدم لرفع سوية التفاعل مع غزّة وما تعانيه، والوعي بطبيعة الصراع مع المحتلّ ومستوياته، إلا أنّ وجود هذه الأصوات وبهذه الكثافة تؤكد استمرار حالة الترهل العربيّ، وتوجيه بعض الأنظمة، وخاصة المطبّعة منها، أو التي كانت قاب قوسين من التطبيع، أذرعها لقتل "التضامن" مع المقاومة، كما يحاولون خنق المقاومة والقضاء عليها في غزّة، ولكنهم سيفشلون، ففي الأولى يتعاظم التعاطف مع المقاومة ودورها وأهدافها، وفي الثانية يشكل ثبات المقاومة حجر الزاوية في هزيمة الاحتلال وكسر تغوّله وصلفه.