الحقيقة بوصفها خطأً ممكناً: هل أنا مصيب أم مصيبة؟

16 اغسطس 2023
+ الخط -

كيف يمكننا أن نعرف، معرفةً يقينيةً، أنّ الحديد يتمدّد بالحرارة، أو أنّ الماء يتركَّب من ذرة أوكسجين وذرتي هيدروجين؟ كان هذا هو السؤال الذي طرحته على عددٍ من طلاب الصف العاشر في إحدى المدارس السورية. وقد اتفق معظم الطلاب، حينذاك، على أنّ تلك المعرفة ناتجة عن التجربة، التي تُثبت ذلك، من خلال تعريض الحديد لحرارة معينة وتحليل عينة من المياه. كانت الإجابات معقولة جدًّا عمومًا، لكنها كانت تعاني من ثغرة تُسمّى "مشكلة الاستقراء". وتتمثل هذه المشكلة في استحالة فحص كلّ كميات الحديد والمياه الموجودة، فكيف يمكننا إطلاق حكمٍ عامٍّ، بناءٍ على تجارب وملاحظاتٍ جزئيةٍ؟ في مواجهة هذه المشكلة، رأى أحد الطلاب أنّه يمكننا إطلاق هذا الحكم بعد فحص عددٍ كبيرٍ من العينات، انطلاقًا من افتراض أنّ العينات الأخرى مماثلة للعينات المفحوصة، مع الاستعداد لتغيير الحكم في المستقبل إذا تبيّن لنا وجود عينات أو أمثلة مضادة تخالف الحكم المذكور.

هذا الطرح هو لبُّ ما قدّمه الفيلسوف كارل بوبر في تحديده لمعيار أو لمنطق المعرفة العلمية بوصفها معرفةً قابلةً للدحض أو التفنيد أو التكذيب. وبذلك أصبحت إمكانية الخطأ والتخطيء شرطًا للحقيقة، وليس مجرَّد عائقٍ أمامها. فالحقائق المقدّمة بوصفها غير قابلةٍ للتفنيد أو التكذيب، مطلقًا ومن حيث المبدأ، ليست حقائق موضوعيةً، وإنما مجرد اعتقادات ذاتية أو ذاتوية ذات طابعٍ معياريٍّ أو أيديولوجيٍّ أو إيمانيٍّ. والمعرفة القادرة على تفسير أو تسويغ كلّ شيءٍ تكون ضعيفةً وتفقد مصداقيتها، لأنها أقوى من أن تكون معقولةً وموضوعيةً، ولأنّه ليس هناك مجال لإظهار أنّها خاطئة أو مخطئة. وعلى هذا الأساس، رأى بوبر أنّ المعرفة التي تقدّمها الماركسية والتحليل النفسي أيديولوجيةٌ وغير علميةٍ، لأنها غير قابلة للتكذيب أو التخطيء. وأشار، على سبيل المثال، إلى أنّه إذا كان هناك شخصان، أحدهما يحاول إغراق طفلٍ ما، والآخر يحاول إنقاذه، فإنّ التحليل النفسي، الفرويدي (نسبة إلى فرويد)، والأدلري (نسبة لألفرد أدلر)، قادرٌ على تفسير موقف الشخصين، وعلى تفسير كلّ المواقف المتناقضة، انطلاقًا من المبدأ ذاته أحيانًا. فبحسب رؤية فرويد تصرّف الشخص الأول ناتجٌ عن الكبت، في حين أنّ تصرّف الشخص الثاني ناتجٌ عن التصعيد أو التسامي. أما رؤية أدلر فتفسّر سلوك الشخصين بمشاعر الدونية.

المعرفة القادرة على تفسير أو تسويغ كلّ شيءٍ تكون ضعيفةً وتفقد مصداقيتها

انطلاقًا من ذلك، رأى كثيرون أنّه ينبغي لأيّ تفسير لأفعال الإنسان ومواقفه وأفكاره أن يتحلّى بالكثير من الحذر والتأنّي و"التواضع" البعيد عن الجزم القاطع، وأن يتخذ صيغ الاحتمالية والإمكانية والجزئية والنسبية. فالمقدمات الواحدة يمكن أن تفضي إلى نتائج مختلفةٍ، وليس هناك، عمومًا وغالبًا، حتميةً ميكانيكيةً، في هذا الخصوص. فالفيلسوف فريدريك نيتشه، على سبيل المثال، أمضى معظم فترات حياته يعاني من أمراضٍ مزمنةٍ وآلامٍ شديدةٍ، لكنه بسبب ذلك و/ أو على الرغم منه، كان فيلسوف إرادة القوة. كما أنّ محيطه العائلي كان مقتصرًا على النساء عمومًا، واعتنت به أمه و/ أو أخته في معظم فترات مرضه الطويلة. لكنه على الرغم من ذلك، أو بسببه، و/ أو لأسبابٍ أخرى، تضمنت نصوصه أحكامًا وصورًا سلبيةً جدًّا عن النساء عمومًا.

إضافةً إلى قيمتي "الخير" و"الجمال"، تمثل "الحقيقة" أحد أضلاع ثالوث القيم الأهم في الفلسفة. وقد انشغل الفلاسفة، منذ العصر اليوناني، في تعريف ماهية الحقيقة أو المعرفة (الموثوقة). وقد عرَّف أفلاطون تلك المعرفة بأنها "اعتقادٌ حقيقيٌّ أو صادقٌ ومسوّغٌ أو مبرَّر". وبدا هذا التعريف، لقرونٍ طويلةٍ، معقولًا جدًّا وجامعًا ومانعًا، في الوقت نفسه. لكن تزايدت التحفظات عليه، لاحقًا، وبلغت ذروتها في طرح الفيلسوف الأميركي إدموند غيتييه، الذي بيّن نظريًّا، ومن خلال مثالين، كيف يمكن للاعتقاد الصادق والمسوَّغ ألا يكون معرفةً (موضوعيةً أو موثوقةً أو حقيقيةً). ففي كلا المثالين، بيَّن غيتييه إمكانية وجود اعتقادٍ يستند إلى وقائع وأدلةٍ تسوِّغ وجوده، بدون أن يفضي ذلك إلى امتلاك معرفةٍ صحيحةٍ بالضرورة.

المقدمات الواحدة يمكن أن تفضي إلى نتائج مختلفةٍ، وليس هناك، عموماً وغالباً، حتميةً ميكانيكيةً

 

إضافةً إلى أنَّ الإنسان بطبيعته أو بماهية وجوده ذو أخطاءٍ وخطايا، عمومًا، وانطلاقًا من أنّ معارفنا منظورية وجزئية ونسبية بالضرورة، فإنّ حضور الإقرار الصريح، أو الضمني على الأقل، بإمكانية الخطأ، في معارفنا وأحكامنا، يبدو ضروريًّا ومفيدًا. وبدون مثل هذا الإقرار، ستتخذ حقائقنا صيغة المزاعم التي تنكر الواقع أكثر مما تعبّر عنه، على الرغم من زعمها أنّها هي الوحيدة المعبّرة عنه، أو بسبب هذا الزعم تحديدًا أو خصوصًا.

ليس نادرًا أن يعتقد شخصٌ ما أنّه محقٌّ في اعتقاداته وأحكامه إلى درجةٍ غير قابلةٍ للتصديق، وأن يكون واثقًا جدًّا في تلك الاعتقادات والأحكام، ويعطي الانطباع أنه يعتقد باستحالة أن يكون على خطأ، في خصوص ما يطرحه، وباستحالة أن يكون المختلفون معه في الرأي على حقٍّ ما في اختلافهم معه. وبغض النظر، مبدئيًّا، عن مدى صحة تلك الاعتقادات أو الأفكار، من المرجح أن يثير الانطباع المذكور الريبة والنفور، ويدفع كثيرين إلى الابتعاد عن مناقشة اعتقادات هؤلاء الأشخاص. وتكون نقطة الضعف في تلك الاعتقادات الأحكام هي ذاتها ما يبدو أنه نقطة قوتها: امتلاكها، الفعلي أو المظنون، ليس لحقيقةٍ ما وإنّما للحقيقة ذاتها، في هذا الخصوص، واستبعادها ليس فقط لأن تكون فعلًا على خطأ، من منظورٍ معقولٍ ما، بل، أيضًا، لإمكانية وقوعها في الخطأ أصلًا. قد يبدو في كلامي مبالغةً، وقد يظن كثيرون أنه من غير المعقول وجود أشخاص مثل هؤلاء وخطابٍ وثوقيٍّ كهذا، لكنني أجزم بوجود هؤلاء الأشخاص وذلك الخطاب، وأستبعد جدًّا ليس فقط أن أكون على خطأ، بل أستبعد أيضًا إمكانية وقوعي في الخطأ، في هذا الخصوص، أصلًا. وبهذا الجزم، يمكنني تعزيز مصداقية طرحي في هذا النص، سواءٌ كان ذلك الجزم مصيبًا أو مصيبةً.

النصّ جزءٌ من مدوّنة "الفلسفة والناس" التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
حسام الدين درويش
حسام الدين درويش
باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثاً في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة "علمانيات متعددة: "ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات" في جامعة لايبزغ، ومحاضراً في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراه من قسم الفلسفة في جامعة بوردو ٣ في فرنسا. صدر له عدد من الكتب والمؤلفات، وينشر باللغتين العربية والانكليزية. يعرّف عن نفسه بالقول "لكلّ إنسان صوت وبصمة، ولكلّ شيء قيمة ومعنى".