التكنولوجيا مفتاح لمواجهة أزمة المياه في العالم العربي

24 أكتوبر 2024
+ الخط -

يعاني العالم العربي من واحدة من أكثر الأزمات تهديدًا لاستدامة الحياة والنمو، ألا وهي أزمة المياه. فمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تصنّف من بين أكثر مناطق العالم شحًا في الموارد المائية، ممّا يجعل الحديث عن مستقبل آمن مائيًا أمرًا يتطلّب اهتمامًا كبيرًا. في خضمّ هذه التحديات، يتطلّع العديد من الحكومات والمجتمعات إلى التكنولوجيا كأداة حيوية للحدِّ من هذه الأزمة. فالتكنولوجيا لم تعد مجرد ترفٍ أو ترفيه، بل أضحت وسيلة أساسية للحفاظ على الموارد المائية وضمان استدامتها للأجيال المقبلة.

الكشف المُبكّر عن التسرّبات: التكنولوجيا الصوتية في قلب الحل

في السنوات الأخيرة، أصبح الكشف عن تسرّبات المياه جزءًا لا يتجزّأ من عمليات إدارة المياه في المدن الحديثة، خاصةً في ظلّ الاهتراء المستمر للبنية التحتية القديمة في العديد من الدول العربية. التكنولوجيا الصوتية تعتبر إحدى التقنيات الأكثر تطورًا في هذا المجال، حيث تعتمد على تحليل الذبذبات الصوتية الناتجة عن تدفق المياه داخل الأنابيب. عند وجود تسرّب، يتم تسجيل هذه الذبذبات بشكلٍ غير طبيعي، ممّا يمكّن العاملين في مجال الصيانة من تحديد موقع التسرّب بدقة بالغة.

إنّ استخدام هذه التقنية قد أسهم في تقليل فقدان المياه بشكلٍ كبير في العديد من المدن الكبرى، حيث أصبح بالإمكان تحديد مواقع التسرّبات حتى في الشبكات المعقدة التي يصعب الوصول إليها. وبهذا الشكل، لا تساعد التكنولوجيا الصوتية فقط في توفير المياه، بل أيضًا في تقليل التكاليف المرتبطة بإصلاح الشبكات المائية المتضرّرة.

الأقمار الاصطناعية والطائرات بدون طيار: مراقبة الأرض من السماء

إلى جانب التكنولوجيا الصوتية، تشهد التكنولوجيا الفضائية والطائرات بدون طيار تقدمًا مذهلًا في رصد وتقييم حالة شبكات المياه من السماء. إنّ الأقمار الاصطناعية الحديثة قادرة على تحليل بيانات سطح الأرض بشكلٍ دقيق، ما يسمح لها بالكشف عن التغيّرات في مستوى الرطوبة ودرجات الحرارة في التربة والمناطق المحيطة بالأنابيب المدفونة. هذه المؤشرات غالبًا ما تكون دليلًا قويًا على وجود تسرّبات غير مرئية تحت السطح.

 لم تعد التكنولوجيا مجرد ترفٍ أو ترفيه، بل أضحت وسيلة أساسية للحفاظ على الموارد المائية وضمان استدامتها للأجيال المقبلة

الطائرات بدون طيار تأتي هنا كحلٍ مثالي لمراقبة مناطق واسعة بسرعة وكفاءة، خاصةً في المواقع التي يصعب الوصول إليها ميدانيًا. تتيح هذه التقنية للسلطات المحلية والشركات الخاصة القدرة على رصد شبكات المياه ومراقبة حالة البنية التحتية بشكل مستمر، وهو أمر حيوي لضمان استدامة الموارد المائية وعدم إهدارها في المناطق الزراعية أو الحضرية.

الذكاء الاصطناعي: ثورة في إدارة الموارد المائية

من أهم التطبيقات التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة في مواجهة شح المياه استخدام الذكاء الاصطناعي. يعتمد هذا المجال على استثمار البيانات الضخمة وتحليلها لتوفير حلول ذكية لإدارة المياه. الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل أنماط استهلاك المياه والكشف عن أيِّ انحرافاتٍ قد تشير إلى وجود تسرّبات أو سوء في إدارة الموارد. يمكن لهذه النظم أن تعمل في الوقت الحقيقي، ممّا يتيح اتخاذ إجراءات فورية قبل تفاقم المشكلة.

هذه التكنولوجيا ليست مجرّد أداة للمراقبة، بل هي نظام استباقي يساهم في التنبؤ بالأزمات المائية قبل حدوثها. كما أنّ قدرتها على التعلّم من البيانات تجعلها أكثر دقة وكفاءة مع مرور الوقت، ممّا يعزّز من قدرتها على تحقيق إدارة مستدامة للموارد المائية في المدن والمناطق الزراعية والصناعية على حدٍّ سواء.

تجارب ناجحة: الإمارات والسعودية في طليعة الحلول الذكية

شهدت بعض الدول العربية الريادية تقدمًا كبيرًا في تبني الحلول التقنية لإدارة مواردها المائية. الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، اتخذت خطوات رائدة من خلال دمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في منظومتها لإدارة المياه. يعتمد النظام المائي الإماراتي على تحليل مستمر لأنماط الاستهلاك، وهو ما ساعد في تقليل استهلاك المياه بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى تحسين التخطيط لمستقبل احتياجات المياه.

أصبح الكشف عن تسرّبات المياه جزءًا لا يتجزّأ من عمليات إدارة المياه في المدن الحديثة

أمّا المملكة العربية السعودية، فقد ركزت على حلول أكبر وأكثر جذرية، تتمثل في مشاريع تحلية مياه البحر باستخدام الطاقة المتجدّدة. بالإضافة إلى ذلك، تبنت المملكة شبكات ذكية لرصد المياه وكشف التسرّبات، ممّا أسهم في تقليل الفاقد المائي وتحسين كفاءة توزيع المياه على المدن والمناطق الزراعية.

التعاون والتكامل: مفتاح النجاح في العالم العربي

على الرغم من أنّ بعض الدول العربية قد قطعت شوطًا كبيرًا في تبني التكنولوجيا لمواجهة شح المياه، إلا أنّ التحديات ما زالت قائمة، ويجب أن يكون هناك تعاون إقليمي أكبر لتحقيق الاستفادة القصوى من هذه التقنيات. تبادل الخبرات والتجارب بين الدول العربية، بالإضافة إلى تطوير حلول تقنية محلية، هو ما سيمكن المنطقة من مواجهة أزمة المياه بشكلٍ فعال.

كما يجب أن تترافق الحلول التقنية مع توعية مجتمعية واسعة حول أهمية ترشيد استهلاك المياه. فالابتكارات التكنولوجية وحدها ليست كافية، إذ يجب أن يدرك المواطنون أهمية الحفاظ على المياه وأن يتخذوا خطوات فعلية لتقليل هدرها في حياتهم اليومية.

التكنولوجيا هي أمل المستقبل

في ظلِّ التحديات المائية الكبيرة التي تواجه العالم العربي، تظهر التكنولوجيا كحليفٍ قوي وقادر على مواجهة هذه التحديات وضمان مستقبل مائي أكثر أمانًا واستدامة. بفضل الابتكارات في مجال الذكاء الاصطناعي، الأقمار الاصطناعية، والتقنيات الصوتية، بات من الممكن اليوم الكشف عن التسرّبات ومنع هدر المياه بشكل لم يكن متاحًا في السابق.

إنّ تبني هذه الحلول ليس مجرّد خيار، بل هو ضرورة حتمية للمحافظة على ثروة المياه التي هي عصب الحياة في منطقتنا. لكلِّ قطرة ماء قيمة لا تُقدّر بثمن، والتكنولوجيا تمنحنا الوسائل للحفاظ عليها، فالمستقبل يعتمد على قرارات اليوم.

باحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي في لندن
علي عيسى
مهندس إلكترونيات فلسطيني وباحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي وتطوير الأدوية، مقيم في لندن.