الأقنعة الرقمية: كيف يُهدّد الذكاء الاصطناعي أمن الشركات

11 أكتوبر 2024
+ الخط -

في ظلِّ التقدّم الهائل الذي نشهده في مجالِ الذكاء الاصطناعي، باتتْ حدود الواقع والخيال تتداخل بصورةٍ غير مسبوقة. وما كان يُعتبر يومًا ما مجرّد حبكةٍ في أفلامِ الخيال العلمي، أصبحَ اليوم تهديدًا حقيقيًا للشركاتِ والمؤسّسات حول العالم. أحد أبرز الأمثلة على هذا التحوّل الكبير هو حادثة سرقة 25 مليون دولار من إحدى الشركات في هونغ كونغ، حيث تمّ استخدام تقنيّات التزييف العميق (Deepfake) في عمليّةِ احتيالٍ مُعقّدةٍ وخطيرةٍ.

تخيّل أن تتلقّى مكالمة فيديو من رئيسك المباشر أو المدير المالي لشركتك، ويبدو لك أنّ كلّ شيءٍ طبيعي، من مظهر الشخص إلى صوته، وحتى تعابير وجهه. لكن في الحقيقة، ما تراه ليس إلا خدعة مُتقنة نفّذها مجرمون باستخدام الذكاء الاصطناعي. هذا ما حدث بالفعل عندما قام موظف في إحدى الشركات بتحويل ملايين الدولارات إلى حساباتٍ غير معروفة بناءً على تعليمات "المدير المالي" للشركة، دون أن يدرك أنّ الشخص الذي يتحدّث إليه ليس إلّا نسخة رقميّة مقلّدة بدقة.

صعود التزييف العميق: تكنولوجيا بوجهين

تقنيّة التزييف العميق، التي تعتمد على نماذج الذكاء الاصطناعي لتحليل ومحاكاة الصور والأصوات البشرية، كانت في البداية ثورة في عالم التكنولوجيا، واستُخدمت في تطبيقاتٍ متنوّعةٍ مثل الترفيه والتعليم وحتى الإعلانات. ولكن، كما هو الحال مع كلِّ تقنيّةٍ جديدة، ظهرت ثغراتها بسرعةٍ واستغلّها المجرمون لتحقيق مكاسب غير قانونيّة.

تمكّن المحتالون من استغلالِ بياناتِ مؤتمرات فيديو سابقة شارك فيها المدير المالي الحقيقي للشركة، لتوليدِ نسخةٍ رقميّة منه

في هذه الحالة، تمكّن المحتالون من استغلالِ بياناتِ مؤتمرات فيديو سابقة شارك فيها المدير المالي الحقيقي للشركة، لتوليدِ نسخةٍ رقميّة منه. هذه النسخة كانت قادرة على خداعِ الموظّف الذي نفّذ أوامر تحويل الأموال دون أدنى شك. كانت كلّ التفاصيل مُتقنة إلى حدِّ أنّ الموظف لم يلاحظ أيّ اختلافٍ، وبذلك تحوّلت مكالمة بسيطة إلى جريمةٍ إلكترونيّةٍ من الدرجة الأولى.

كيف تكشف هذه الجريمة حدود الأمان في الشركات؟

تُظهر هذه الحادثة بوضوح أنّ العديد من الشركات ليست مستعدّة للتعامل مع التهديداتِ الجديدة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي. لا يقتصر الأمر على تقنيّات التزييف العميق فحسب، بل يمتدّ إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في الاحتيال على نطاقٍ واسع، سواء كان ذلك عبر التصيّد الاحتيالي، أو القرصنة، أو انتحال الشخصيّات.

إعادة التفكير في الحماية الرقمية

في مواجهةِ مثل هذه التهديدات، يتعيّن على الشركات تحديث استراتيجيّات الأمان السيبراني لديها بشكلٍ جذري. فلم تعدْ الأساليب التقليدية مثل كلمات المرور والأنظمة الأمنيّة التقليدية كافية لصدّ هجمات معقدّة تعتمد على الذكاء الاصطناعي. يجب على الشركات اتباع خطوات حازمة تشمل:

(1): التحقّق المتعدّد العوامل: على الشركات اعتماد تقنيّات للتحقّق المتعدّد العوامل، ليس في المعاملات المالية فحسب، ولكن في الاجتماعات الافتراضيّة أيضًا، للتأكد من هويّة الأشخاص المشاركين وضمان صحّتها.

(2): التدريب المستمّر للموظّفين: تزداد أهميّة تدريب الموظفين على اكتشافِ العلامات التحذيرية للاحتيال الإلكتروني. إذا كانت التكنولوجيا تخدع البشر، فيجب أن يكون لديهم وعي تكنولوجي عالٍ.

العديد من الشركات ليست مستعدّة للتعامل مع التهديداتِ الجديدة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي

(3): استخدام تقنيّات مكافحة التزييف العميق: من الضروري للشركات الاستثمار في برامج وأدوات متقدّمة للكشف عن التزييف العميق، يمكنها تحليل الفيديوهات والصوتيّات للتأكّد من صحّتها.

(4): الاعتماد على الذكاء الاصطناعي المُضاد: هناك مبادرات جديدة تعتمد على استخدام الذكاء الاصطناعي ذاته للكشف عن التزييف العميق، ممّا يوفّر طبقة إضافيّة من الأمان للشركات.

مستقبل الأعمال في ظلِّ الذكاء الاصطناعي

إذا كانت هذه الحادثة تمثّل أيّ شيء، فهي تعكس التحوّل الذي يفرضه الذكاء الاصطناعي على بيئةِ الأعمال. في الوقت الذي يوفّر فيه الذكاء الاصطناعي إمكانيّاتٍ غير محدودة لتحسين العمليّات وابتكار حلول جديدة، إلا أنّه يفتح أيضًا أبوابًا جديدة للمخاطر. الشركات التي ترغب في الحفاظ على أمانها واستمراريتها في هذا العصر الرقمي يجب أن تكون على درايةٍ تامة بهذه التهديدات وأن تتخذ خطوات استباقيّة لمواجهتها.

في النهاية، لا يمكننا إنكار أنّ الأقنعة الرقمية باتت تمثل وجهًا جديدًا للتحدّيات التي يفرضها العالم الرقمي. والشركات التي لا تتكيّف مع هذه التحدّيات ستكون عرضةً للوقوع في فخِّ الاحتيال الإلكتروني. في المقابل، تلك التي تستثمر في التكنولوجيا الوقائية والتدريب ستكون أكثر استعدادًا لمواجهة مثل هذه الهجمات والتغلّب عليها.

باحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي في لندن
علي عيسى
مهندس إلكترونيات فلسطيني وباحث دكتوراه في مجال الذكاء الاصطناعي وتطوير الأدوية، مقيم في لندن.