التقاء الرمزيات.. عن كربلاء ونجاة موسى عليه السلام

01 اغسطس 2023
+ الخط -

صادف يوم 28 يوليو/تموز من هذه السنة ذكرى استشهاد الإمام الثائر الحسين بن علي بن أبي طالب، ويبدو أنّ هذه الذكرى تُحرج كثيرين منّا كما أعلم، فيتغافلون عنها بالاكتفاء بذكر نجاة سيدنا موسى من بطش فرعون، ولكني لا أفهم معنى هذا التغافل ولا أجد سبيلاً لتفهّمه. أدرك أنّ التاريخ أشقانا وأثقلنا بالخلافات والانقسامات وعزّز هذا الفتن الطائفية والاقتتال، ولكن تحريرنا مشروط أولاً بتحرير الرمزيات واعتبارها قيمة مشتركة، للجميع حق الاستلهام منها والانجذاب إليها.

إنّ رمزية الإمام الحسين مقترنة جوهرياً برمزية حدث نجاة موسى عليه السلام، فكلّ منهما كان ثائراً على شكل من أشكال الظلم والبطش في زمانه. خرج موسى عن فرعون كافراً به، فكان بفعله هذا يفكّك بنية السلطة في زمانه ويضرب أساس "شرعية فرعون" في الحكم، أي أنّه إله يطيعه الناس على هذا المعنى. كانت فكرة التوحيد ثورية في ذلك الوقت، أي أن يعبد الناس ربّاً عادلاً، ويخاطبهم بكتاب يهديهم ويرشدهم إلى طريق الخير ويدعوهم إلى رفض ظلم فرعون وعدم طاعته. لم تكن هذه الأفكار عادية أو مألوفة إذا نظرنا إليها ضمن السياق التاريخي الخاص بها، فقد اهتمت بالناس في فرديتهم (تصوّر الإله)، وفي وحدتهم كمجتمع يتعرّض للجور باسم فكرة الإله. كان فعل موسى في قومه فعلاً ثورياً بامتياز، يخاطب عقول الناس ويستحث مكامن النفس البشرية المكتنزة بالخير والصلاح. وفي ذكرى عاشوراء، نحيّي أيضاً انتصار نجاة العدل والإصلاح وغرق الظلم والفساد. 

في المقابل، أجد رمزية الإمام الحسين متفقة جوهرياً مع رمزية فعل موسى عليه السلام في قومه، فقد كان الإمام الحسين ثائراً على السلطة السياسية في زمانه، مطالباً بالعدل، فكانت عقوبته القتل والتنكيل به، وبكلّ آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلّم من طرف السلطة الحاكمة التي لم تكن تطلب غير الانتقام والإذلال لمن ثاروا عليها حتى يتعظ غيرهم، ولا تراودهم الفكرة مجدداً. على اختلاف الروايات التاريخية وتعدّدها، وأحيانا تناقضها، فإنّي أرى أنّ الفكرة الأساسية من كلّ ما حدث هي فكرة الثورة والخروج على النظام الذي يحكم، هذه الفكرة هي أكثر ما أربك نظام يزيد بن معاوية حتى يردّ بذلك الشكل الوحشي. لقد مثل الإمام الحسين رمزية للثائر الذي يقف في وجه الظلم ولا يروعه المآل، فكرة كهذه كفيلة بأن تجعل كلّ من يحكم على قلق مستمر من زوال حكمه. وفي هذه الذكرى، نستذكر سقوط الإمام الحسين شهيداً والتمثيل بجسده الشريف حتى بعد موته، إذ كان خصمه يطلب النيل من فكرة اعتقد أنّه استطاع القبض عليها وقتلها، فما كان إلا أن أحياها وكثّف رمزيتها.

أهدرنا قروناً في خلافات لا معنى لها، زادت من انقساماتنا وبدّدت أحلامنا

انطلاقاً من هذه القراءة أعتقد أنّ الحدثين السابقين من معين واحد، والرمزية فيهما كبيرة للدرجة التي لا يمكن معها الفصل. وإنّ التاريخ بأحداثه وتعقيداته جُعل للفهم والتدبّر والاستعانة للبحث به عن أجوبة لمشكلات الحاضر وانجذاباً لمستقبل يكون فيه مكانة للعدل والخير. لا يمكن أن يكون سيدنا موسى غريباً عن الإمام الحسين، ولا العكس. ولكن كلّ ما في الأمر، هو قدرتنا على استشفاف الفكرة وتحرير الأشواق من روث النعرات الطائفية والدغمائيات. لقد أهدرنا قروناً في خلافات لا معنى لها زادت من انقساماتنا وبدّدت أحلامنا، وإلى اليوم يتم استثمارها لحرق الأوطان وإهدار الأرواح تحت مسميات مختلفة، ولكن النتيجة فيها واحدة: الخراب المحقّق.

ختاماً، كان فعل سيدنا موسى موجّهاً للمستقبل يخاطب عقول الناس وضمائرهم، فكان فعلاً ثورياً بامتياز يعالج البنية الثقافية والنفسية للمجتمع، ويقدّم بديلاً ثقافياً وحضارياً يكون فيه للتغيير معنى. وبالقدر ذاته كان فعل الإمام الحسين على هذا النحو، إذ كانت الدعوة للثورة على الظلم والبطش هي محاولة استعادة للأسس الأولى التي جاء بها الإسلام وقام عليها، ولا معنى لشرعية تناقض الأسس التي قامت عليها. لقد كانت ثورة الإمام الحسين لحماية المعنى من تشوّهات الممارسة والتجربة بروحية انتصارية عالية تتطلع للمستقبل، وتندفع إليه بآمال متجدّدة في الإنصاف والإصلاح.

السنوسي
أحمد بن لطفي السنوسي
طالب هندسة و كاتب صحفي تونسي. صدر له العديد من المقالات في مواقع وصحف إلكترونية مختلفة. يعرّف نفسه بالقول: "إذا حكمت خيال الناس دنيا فإني يحكم الدنيا خيالي".