النخبة السياسية التونسية بين الاحتكار والتخبط

14 يناير 2020
+ الخط -
إنه لمن العسير على كل راصد للوضع السياسي في تونس منذ اندلاع الثورة أن يضع معايير حكم وتقييم تمكنه من تحليل الواقع السياسي وفهمه، إذ إن الوضع يتغير ويتقلب بشكل كبير وغالباً ما يكون تعاطي المكونات السياسية معه قائماً على المُسايرة ورد الفعل على ما يطرأ على المشهد السياسي أكثر من الاتجاه نحو صناعة الحدث السياسي وتغيير الآليات التي سيرت بها المنظومة القديمة الدولة طيلة عقود من الزمن، فيكون بذلك وضعاً قائماً على المفاجآت والارتجال في مواجهتها.

إن انتخابات 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أفرزت مشهداً فسيفسائياً غير متناسق، فكانت فرصة للكشف وللانكشاف، إذ لم يكن صراعاً بين فاسدين ومصلحين أو بين منظومة قديمة وقوى الثورة، بل كان صراع الكل ضد الكل.. كل مكونات الساحة السياسية مثقلة ومحمّلة بأوهام وهواجس عززتها الممارسة السياسية منذ 2011 إلى الآن.

"قوى الثورة" تعيش في هاجس الخوف من الإقصاء والحشر في الزاوية، الوافدون الجدد على السياسة من أصحاب المال يعيشون في هاجس كشف قضايا فسادهم وما هم متورطون فيه، أما بقايا المنظومة القديمة فتعيش على شعارات رفعها الاستبداد وأصبحت مثيرة للسخرية في هذه المرحلة التي تعيشها البلاد.

كل هذه المكونات التي اجتمعت تحت قبة البرلمان في ظل نظام حكم برلماني قُدّر لها أن تظهر عجزها وضعفها أمام الجميع فلا قوى الثورة انتصرت للثورة ولا المنظومة القديمة تمكنت من إقصاء قوى الثورة وحشرهم في الزاوية.


لن أتحدث كثيراً عن المنظومة القديمة ولا عن الوافدين الجدد من أصحاب قضايا الفساد والممارسة السياسية المبتورة، إنما سأسلط الضوء على "قوى الثورة" التي منحها الشعب فرصة تاريخية لتجتمع وتشكل جبهة قوية بإمكانها التغيير وتحقيق الرهانات الاقتصادية والتنموية التي ينتظرها التونسيون منذ سنوات وهي من أوكد حقوقهم.

إن سائر القوى السياسية والاجتماعية التي شكّلت جبهة الثورة في تونس والتي خاضت ولا تزال صراعاً مع منظومة "المارد المتمرّد"، سواء أكان ذلك مع باقي الأطياف السياسية باختلاف مرجعياتها أو في المجال الحقوقي الذي كان متنفس المعارضين وصوتهم، وتضم كذلك كل من شارك في الثورة التونسية وكان جزءاً من عملية التحرر وكل من عبر عن استعداده للإصلاح.

أغلب هذه القوى عاشت في سياقات أنهكتها، فتشكل وعيها على المعارضة والحذر واستشراف الخطر من جهة النظام، في المقابل كانت تخوض صراعات أيديولوجية فيما بينها، مما عزز هذا الاختلاف الذي غالباً ما يتطور ليصبح خلافاً، كل هذه القوى محمّلة بأعباء الماضي ولم تتخفف ولا تريد أن تتخفف، وهذا تبيّن في أول تجربة أو "اختبار" بعد الثورة لهذه القوى مجتمعة من إسلاميين وقوميين عروبيين ويساريين.

الدستور التونسي أعطى للحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الحق في تشكيل الحكومة، لكن نظراً لنتائج الانتخابات التي أفرزت مشهداً متشظياً وُضع الحزب الفائز "حركة النهضة" والمتحصل على 52 مقعداً من 217 مقعداً - وهي أغلبية ضعيفة - في وضعية حرجة تشترط توسيع دائرة التشاور من أجل دعم الحكومة وتمريرها.

دامت المفاوضات مع بقية الأحزاب طويلاً في سبيل توسيع الحزام السياسي للحكومة المقترحة، وباءت جميعها بالفشل ولم تنجح الوساطات من الشخصيات الوطنية لتقريب وجهات النظر وإيجاد أرضية مشتركة للاتفاق.

إن مسار تشكيل الحكومة - التي تم إسقاطها في البرلمان يوم 10 يناير/ كانون الثاني 2020-، جعل المشهد أكثر وضوحاً وفتح أبواباً واسعة لفهم هذه النخب السياسية المُثقلة بأعباء ماضٍ أتعبها وشكّل وعيها، ولعل بعض تصريحات رموز حركات التحرر والانعتاق خلال الفترة الأخيرة كانت المرآة الكاشفة لواقع حال نخبة علق الشعب آماله في أن يكون لقضاياها الحقيقية نصيراً وأميناً، فجاء تصريح الدكتور سالم الأبيض القيادي في حركة الشعب في رد على القيادي في حركة النهضة السيد عبد الكريم الهاروني مستحضراً من خلاله أمجاد القوميين ومتحدثاً عن "الزعيم جمال عبد الناصر" معدّداً "لانتصاراته"، وقال بأن "زعيم الإسلاميين" هرب من الجلسة العامة في البرلمان حتى لا يواجه كتلة الحزب الدستوري الحر.

أما حزب التيار الديمقراطي فرفض المشاركة في الحكومة حتى بعد الاستجابة لأغلب شروطه، وأرجع ذلك لغياب ضمانات حقيقية تسمح له بالمشاركة وبتنفيذ برامجه التي يعتبرها إصلاحية.

أما حركة النهضة وهي المسؤول الأول عن هذا المسار المتعثّر فلم تضع كل الاحتمالات منذ 6 أكتوبر، وسارت نحو المفاوضات بدون خطط بديلة في حال رفض التيار الديمقراطي وحركة الشعب المشاركة، وإن لم يكن كذلك لما عشنا كل هذا التخبط وجيء بشخصية "وافدة على المشهد" لتكليفها بتشكيل الحكومة فلم تقدر أن تستوعب التوازنات وحاولت أن تجمع بطريقة عشوائية تعكس ضعفاً وغياباً لرؤية استراتيجية تتفاعل مع المتغيرات والتحولات في المشهد السياسي والاجتماعي.

تحالف ائتلاف الكرامة كان يسعى للحفاظ على حد أدنى من الانسجام والوضوح كقوة جديدة فاعلة تؤمن بالثورة وبالهوية العربية الإسلامية وبسيادة تونس على قرارها وثرواتها، بيد أنّه لم يبد موقفاً يوحي بذلك في هذا المسار تحديداً بقدر ما كان في مربع مجاراة الأحداث ورد الفعل.

كل هذه المؤشرات تضعنا أمام استنتاجات في علاقة بالنخبة السياسية الحالية ومدة صلاحيتها التي انتهت - في تقديري - منذ زمن؛ العقل الذي يدير المشهد السياسي مثقل ومُتعب بتاريخ لم يجد الصيغ المناسبة لتقييمه والوقوف عند الأخطاء المُرتكبة، القوميون العروبيون تحمّسوا في هذا الخضم فعادوا إلى مربع الصراع القديم ورفعوا الشعارات التي رفعوها في فترة الستينيات والسبعينيات ليزايدوا بها على الإسلاميين، وهذا يؤكد أنهم لم يقفوا عند التجربة القومية عموماً والناصرية تحديداً لتقييمها تقييماً موضوعياً بهدف الفهم وبعيداً عن التعنّت.

الإسلاميون، وأساساً "حركة النهضة"، لم يتخلوا عن سياسة التنازلات والإنذار المستمر بحالة الخطر فظلوا يشتغلون دائماً بعقل متوتّر يرى نفسه محشوراً في الزاوية والجميع يتآمر عليه ويتربّص به، فالعقل السياسي عند الإسلاميين أصبح مطبّعاً مع سياسة الأمر الواقع وتأجيل فتح الملفات الحارقة حتى حين.

التيار الديمقراطي يخاف المغامرة والدخول في تجربة قد يفشل فيها فتسقط الصورة التي بناها كحزب رافع لشعارات مقاومة الفساد والفاسدين وله رؤية متكاملة في هذا الغرض، لكنه لم يغلّب المصلحة العامة يوم اقتضى الأمر ذلك، فانتصر لنفسه كحزب على حساب المسار الوطني العام.

من غير الممكن تعليق آمال كثيرة على نخبة سياسية مثلت في وقت ما المدّ الثوري لكنها لم تقدّم سوى الحد الأدنى من المطلوب منها، فالمشهد السياسي التونسي في تقديري لن يغادر كثيراً مربّعه ولن تتغير ملامحه بالشكل الجذري المطلوب ما دام العقل الذي يدير مستعداً للتخبط من أجل تحصيل الحد الأدنى بالهروب أو "بالترقيع"، الوضع لم يعد يحتمل الارتجال في الفعل لكنهم يصرّون على ذلك.

العقل السياسي تعوّد على القبول بالحد الأدنى والتكاسل في الاستشراف، فأصبحت أسمى رهاناته إرساء معادلة الاستقرار وما زاد عن ذلك لا يقدرون عليه.

من الضروري أن تفهم هذه النخبة أن مرحلة الانتقال الديمقراطي انتهت وما هو مطلوب منها أكثر من "حالة الاستقرار" بكثير. مطالب الناس الاجتماعية ومشاكلهم التنموية والوضع الاقتصادي المُترهّل وكتلة الأجور التي تتضاعف، فضلاً عن التداين الخارجي، كلها رهانات في عنق الحكومة القادمة وستحاسب عليها.

الشعب أدرك اليوم أنه الحارس الحقيقي لهذا الوطن ولن يصدّق كل ما يقدمه هؤلاء من سيناريوهات هي محض أوهام وانطباعات، إن لم نقل إنها عين الانتهازية المقيتة، الشيء الوحيد الذي يقنع الشعب بالسياسات المقترحة بعد كل ما عاشه وشهده منذ أول حكومة بعد الثورة إلى الآن هو المُنجز على المستوى الاقتصادي والاجتماعي عدا ذلك فلن يهديهم سوى ورقة تخرجهم من المشهد كما أخرجت غيرهم إما على مراحل أو دفعة واحدة.

إن جزءاً من هذه النخبة يمكنه أن يتعافى دون أن تفقد الشخصيات الوطنية قيمتها المعنوية والرمزية والتاريخية وهذا منوط بعهدتهم وحبيس إرادتهم، يوم يتطعّم المشهد بفاعلين سياسيين مُتعافين في فكرهم ومتحررين في عقولهم وجيوبهم ومتخففين من أعباء الماضي، ستصبح للفعل السياسي آنذاك أبعاد أعمق مما نراه الآن، وستكون إرادتهم وخبرتهم هي البوصلة الموجّهة والمحدّدة لمسار يراد له أن يكون نابعا من العمق الشعبي لا من مكاتب مقرات أحزابهم، عندها سيجد جزءاً من النخبة القديمة ما يريد وسيجد آليات جديدة للفعل تدفعه - ضرورة - إلى الاختيار إما أن يكون جزءاً من هذا الشكل الجديد للفعل فيتخفف مما يثقله ويتجاوز ما يحبسه ويحبس فكره لسنوات، أو أن يبقى مكانه فيتجاوزه الزمن والوعي ويصبح خارج دائرة الفعل والتاريخ.

لست من دعاة الصراع والاحتدام بين الأجيال؛ قديم/ جديد، إنما أؤمن بقوانين التاريخ وسلطة المنطق التي تدفعنا نحو استنتاجات من هذا القبيل، فالثابت يندثر لغياب الملاءمة والجديد يظهر ويُناسب لأنه ملائم وينتهي بمجرد فقدانه هذه الصفة، الملاءمة خيار حر لا يتخلى فيه الإنسان عن هويته أو عن ذاتيته إنما يحفظها ويتمسك بها وينفتح في الوقت ذاته عما يحيط به بكل مسؤولية فيكون بذلك فكره متنوّراً وفعله منسجماً وملائماً لواقعه. التاريخ يتقدّم وله ذاكرة لا تستثني أحداً، والرمز عنده رمز بفعله واقتداره.. وما دون ذلك هو عابر كسائر العابرين.
السنوسي
أحمد بن لطفي السنوسي
طالب هندسة و كاتب صحفي تونسي. صدر له العديد من المقالات في مواقع وصحف إلكترونية مختلفة. يعرّف نفسه بالقول: "إذا حكمت خيال الناس دنيا فإني يحكم الدنيا خيالي".