الاستبداد الرقمي... "الصين" صدارة وتصدير

24 اغسطس 2022
+ الخط -

بدايات القرن الحادي والعشرين كانت واعدة بكيفية استخدام التقنيات لدعم الديمقراطيات وحقوق الانسان، فإن الوتيرة الجنونية التي تطورت بها التقنيات الرقمية في السنوات الأخيرة أتاحت للمستبدين في جميع أنحاء العالم طرقاً جديدة لاستخدام البنية التحتية للاتصالات والأجهزة الإلكترونية وتطبيقات البرامج ومحتوى المعلومات والمنتديات الدولية لممارسة الاستبداد الرقمي لتمكين قمع المجتمع المدني.

إن الدكتاتوريات لا تلجأ إلى الوسائل التكنولوجية بغية قمع الاحتجاجات فقط، بل أيضاً لتشديد أساليب السيطرة التقليدية على الفرد. يشير تحليل مستمد من مجموعات بيانات متنوعة إلى أن الدكتاتوريات التي تزيد من استخدامها للقمع الرقمي تميل أيضاً إلى زيادة استخدامها لأشكال أكثر عنفاً من القمع في الحياة الواقعية، ولا سيما الاعتقال والتعذيب والسجن أو قتل المعارضين. ويشير هذا التحليل أيضاً إلى أن الزعماء والقادة المستبدين لا يستبدلون القمع التقليدي بالقمع الرقمي، بل إن القمع الرقمي والاستهداف الوثيق للمعارضين يقلل الحاجة إلى اللجوء إلى القمع العشوائي، الذي يمكن أن يؤدي إلى رد فعل شعبي.

ساهمت تقنية المراقبة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في تطوير آليات الاستبداد الرقمي، حيث مكنت الكاميرات عالية الدقة وتقنيات التعرف إلى الوجه وبرامج التجسس الخبيثة، فضلاً عن التحليل الآلي للنصوص ومعالجة البيانات مجموعة واسعة من الأساليب الجديدة للسيطرة على المواطنين، كذلك تتيح هذه التقنيات للحكومات مراقبة المواطنين وتحديد هوية المنشقين، وتعمل في بعض الأحيان بطرق استباقية.

في منطقتنا العربية، نسمع الكثير من الأصوات المطبلة للنظام الصيني، وكأنه حمامة السلام القادمة لمنطقتنا للدفاع عن الشعوب ونشر الحريات والمحبة وتحقيق العدالة

لم يستغل أي نظام في العالم الإمكانات القمعية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي مثل النظام في الصين، إذ يجمع الحزب الشيوعي الصيني قدراً لا يصدق من البيانات عن الأفراد والشركات، وصولاً إلى تقنيات تقييم السلوك والتوجهات والآراء لدى المواطن الصيني.

في الشهر الماضي، ضجت وسائل الإعلام بما توصل إليه خبراء الذكاء الاصطناعي في الصين بخصوص دراسة بحثية يفترض أنها تضمنت تقييماً للموجات الدماغية للناس وتعبيرات وجوههم بهدف معرفة ولائهم للحزب الشيوعي الصيني من عدمها. وكشف تقرير نشره موقع "بيزنس إنسايدر" الأميركي أن المعهد الصيني، من خلال فيديو ومنشور، ذكر أن البرنامج يمكنه قياس ردود أفعال أعضاء الحزب على الفكر والتثقيف السياسي، من خلال تحليل تعبيرات الوجه والموجات الدماغية.

كذلك فإن من شأن النتائج التي يجمعها "قارئ العقول" الصيني، الذي تديره خوارزميات الذكاء الصناعي، أن تساعد بعد ذلك "في توطيد ثقتهم وتصميمهم على أن يكونوا ممتنين للحزب، والاستماع إلى تعليماته واتباعها وفقاً للتقرير الذي نشره الباحثون.

وفي تطوّر تكنولوجي آخر، بنت الشركات الصينية الناشئة خوارزميات تعتمد على الذكاء الصناعي، تتيح للحكومة الصينية استخدام تقنية التعرف إلى الوجه المتقدمة لتتبع ومراقبة أقلية الأويغور المسلمة، الأمر الذي دفع خبراء وحقوقيين إلى القول إن الحكومة الصينية أول من يستخدم الذكاء الصناعي بطريقة متعمدة للتنميط العرقي.

وفيما تتبع تقنية التعرف إلى الوجه، التي أدمجت بنظم شبكات كاميرات المراقبة المتنامية في الصين، المواطنين الأويغور وتحتفظ بتسجيلات عن جميع تحركاتهم بغية البحث والمراجعة، تحولت الصين بفعل هذه الممارسات إلى دولة رائدة في مجال تطبيق تقنيات الجيل المقبل لمراقبة مواطنيها، ما قد يؤذن ببداية حقبة جديدة من العنصرية المؤتمتة، حسبما ذكرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.

وللأسف، ونحن نتطلع إلى عالم تسوده العدالة الاجتماعية وحفظ كرامة الإنسان واحترام حقوقه، وبعد أن أتاح الفضاء الرقمي ساحة جديدة للتعبير عن الرأي الحر ومقارعة الطغاة والدفاع عن الإنسان، إلا أنه في الصين تحقق العكس واستثمر الفضاء الرقمي لترسيخ الاستبداد وانتزاع الحقوق والسيطرة على الأفكار، والأسوأ من ذلك أن الصين تصدّر هذه السياسات والتقنيات إلى دول عدة.

وتأتي كل هذه الممارسات القمعية الرقمية استكمالاً لممارسات الحكومة الصينية على أرض الواقع، من انتهاكات لحقوق الانسان بمختلف أشكالها، أو على صعيد الاضطهاد الفظيع لمسلمي الأويغور وغيرهم من الأقليات، وسياسات العمالة القسرية، وفرض قيود شديدة على الحريات الدينية، وفصل الآباء عن أبنائهم، وتحديد النسل بالإكراه، والحبس الجماعي، إلخ.

خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً في منطقتنا العربية، نسمع الكثير من الأصوات المطبلة للنظام الصيني، وكأنه حمامة السلام القادمة على منطقتنا للدفاع عن الشعوب ونشر الحريات والمحبة وتحقيق العدالة، ولهؤلاء نقول: عجباً!

دلالات
راغب ملي/ فيسبوك
راغب ملي
مدير الاتصال الرقمي في مركز أبحاث الحكومة الإلكترونية، كاتب وباحث ومتخصص في مجال إدارة مواقع التواصل الاجتماعي.