الإلهاء الرقمي... وشعوب عربية مقهورة
يتحدث المفكر والأكاديمي والسياسي الأميركي والذي يعد من مثققي العالم أفرام نعوم تشومسكي، المولود في ديسمبر/كانون الأول من العام 1928، في كتابه أسلحة صامتة لحروب هادئة، عن عشر استراتيجيات للتحكم بالشعوب، ومنها استراتيجية الإلهاء موضوع مقالتنا، والتي تعتبر عنصرا أساسيا في التحكم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرأي العام عن الأزمات الهامة والتغيرات التي تقررها القيادات الحاكمة، ويتم ذلك عبر ضخ كم من الإلهاءات والمعلومات التافهة، ويشرح أن استراتيجية الإلهاء أساسية أيضاً لمنع العامة من الاهتمام بالمعارف الضرورية.
ويعبر تشومكسي في كتابه بالتالي: "حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيدا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية والهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقوا الجمهور مشغولا، مشغولا، مشغولا دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى".
كما شرح في كتابه السيطرة على الإعلام حول الدور البارز التي تقوم به وسائل الإعلام في شؤون السياسة وغيرها، ومدى تحكمها وسيطرتها على الرأي العام، وتمكنها من تحويل آراء الشعوب من النقيض إلى النقيض، وصناعة رأي عام يتناسب مع هوى السلطة.
لا شك بمدى الارتباط الوثيق أو بشكل أدق تبعية وسائل الإعلام المطلقة للقيادات في الأنظمة الشمولية، سواء على صعيد دول أو منظمات أو أحلاف إقليمية، وبالتالي هي أداة من أدواتها وتؤدي الدور المطلوب منها، مقابل التقديمات المالية الهائلة فضلا عن المحفزات المعنوية، ويمكننا القول بأن وسائل الإعلام التقليدية منها والرقمية تشكل عنصرا رئيسيا في تنفيذ استراتيجة الإلهاء، فكما ذكرنا أعلاه فإن الإعلام ومؤسساته التقليدية والرقمية جزء من مؤسسات هذه الأنظمة.
لإخواننا من الشعوب العربية، في لبنان أو سورية والعراق واليمن، فليكن نصب أعينكم أوطانكم، أوجاعكم، أطفالكم، أمانكم
ومنذ بداية الحرب المستنكرة على أوكرانيا، ونتيجة الاصطفافات السياسية والمصالح الإقليمية والدولية، عمدت الأنظمة ومن يتبعها المناصرة للحرب على أوكرانيا أو بعبارة أخرى الحليفة للنظام في روسيا، على استثمار كل وسائل إعلامها التقليدية والرقمية للترويج لهذه الحرب، وإبراز الرئيس الروسي بوتين كبطل عظيم، وفي مقلب آخر حيث تكمن استراتيجية الإلهاء التي تنفذها وسائل إعلامهم في الوقت الحالي، لا سيما منصات الإعلام الرقمي وصفحات مؤسساتهم الإعلامية، إضافة إلى الحسابات الشخصية للإعلاميين والناشطين والعاملين في هذه المؤسسات على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي مطالعة لهذه الصفحات، نجد المنشورات أو الفيديوهات والصور التفاعلية، التي تتحدث عن انهيار القارة الأوروبية وارتفاع الأسعار واحتمال البدء بتقنين الكهرباء وغيرها من الآثار الاقتصادية المترتبة على الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي كثير من الأحيان تكون هذه المعلومات غير دقيقة أو مبالغ فيها، الأمر الذي يضيء على غياب مهنية هذا الإعلام وإعلامييه أيضاً، ويتم تناول هذه الأخبار والمنشورات وكأن أنظمتهم أو مرجعياتهم السياسية حققت انتصارات على الغرب، وهو ما يخلق تفاعلا مع الجمهور الرقمي الذي ينساب مع هذه الخطابات، وينسى كل أوجاعه ومصائبه التي تحل به وببلاده، حيث لا كهرباء أصلا ولا تعليم ولا رعاية صحية، بل أدنى حقوق المواطن غير متوفرة، فضلا عن غياب الأمان الاجتماعي والأمني والفساد المستشري في كل القطاعات، وينسى هذا المواطن المتفاعل مع الانتصارات التي تنشرها وسائل إعلام الأنظمة الحليفة للنظام في روسيا أنها شريكة في الفقر الذي وصل إليه المواطن، وفي تدني مستوى المعيشة، وفي موت الأطفال أمام المستشفيات وغيرها من الكوراث الاجتماعية.
إن الخطابات والمنشورات والمواد التفاعلية الذي تجري في الفضاء الرقمي، وتحديدا منصات التواصل الاجتماعي تحقق سرعة هائلة في الانتشار وقدرة عالية في التأثير وخلق التفاعل، بيد أن هذه العملية منظمة وممنهجة وتخدم مصالح القيادات التي تتبع لها وسائل الإعلام وشخصياتها الإعلامية، وهي تمثل استراتيجية الإلهاء الذي تحدث عنها تشومسكي، حيث يتم إلهاء الشعوب وحرف أنظارها عن أوجاعها الواقعية بالقضايا الكبرى وشعارات هزيمة الغرب وسحق الإمبريالية.
لإخواننا من الشعوب العربية، في لبنان أو سورية والعراق واليمن، فليكن نصب أعينكم أوطانكم، أوجاعكم، أطفالكم، أمانكم.. هؤلاء الإعلاميون الذي يستقطبونكم بالشعارات والانتصارات تنفيذاً لاستراتجيات مموليهم، يجلسون في منازلهم أو مكاتبهم متنعمين بكل وسائل الراحة والحياة والرفاهية، والكثير منهم يتعاملون مع الكماليات الحياتية بأنها حاجات ضرورية من ترفيه وسياحة وسفر وغيرها.. وأنتم تعانون ما تعانونه.