الإبداع في مواجهة حياة قاسية
تكرس القاعدة الذهبية "الحاجة أُم الضرورة" نفسها بشدة، وخاصة ما يتعلق بتفاصيل حياة النساء السوريات، وتتطور وتزداد ضرورة إيجاد فرص عمل تدر دخلاً كريماً وكافياً للنساء، على الرغم من إفلاس سوق العمل من الفرص المناسبة والعادلة وخاصة للنساء المتقدمات في السن والوحيدات وغير المتعلمات أو العاملات.
يسرى امرأة تجاوزت الخامسة والخمسين من العمر، تعيش في بيت العائلة الصغير بعد أن توفيت والدتها وتفرق أخوتها وأخواتها كل في أعماله أو ضمن نطاق أسرهم الصغيرة، وغرقت يسرى في رتابة الوقت الطويل وضيق ذات اليد وتعثر قدرتها على طلب المساعدة من أخ أو أخت أو أي صديق أو قريب لأن استفحال أزمة تراجع الأحوال المادية بات حالة جماعية وطاولت الجميع.
للصدفة يقع بيت يسرى قريباً من إحدى المدن الجامعية، ذهبت إلى هناك ووضعت إعلاناً بخط اليد مدون عليه عنوان بيتها ورقم هاتفها عارضة فكرة عبقرية لم تخطر على بال أحد سواها! مستعدة لغسل ملابسكم بأسعار مناسبة!
بعد عودة يسرى إلى بيتها انتابتها مشاعر قلقة، فكرت بالعودة لنزع تلك الأوراق، خافت من السخرية أو من تعرضها لأذى مباشر، خاصة لأنها تركت رقم جوالها وعنوان بيتها مشرعين أمام الغرباء.
بعد دقائق تحول القلق إلى سعادة كبيرة، تواصلت معها طالبة جامعية وصلت إلى بيتها بعد ربع ساعة وهي تحمل ملابسها المتسخة، وتبادلت يسرى والطالبة سعادة غير محدودة لنجاح فكرة يسرى وتحقق حاجة الطالبة.
طورت يسرى عملها بسرعة فائقة بالتشارك مع أصحاب الحاجة للغسيل بسبب عدم توفر الكهرباء، ولا إمكانية لتسخين الماء اللازم للاستحمام لغياب إمكانيات توفير مواد الطاقة والتدفئة اللازمة، درج عدد محدود من الطالبات على الاستحمام في بيت يسرى مقابل مبلغ محدد ولمدة محددة، تسامحت يسرى قليلاً وبشكل خاص مع الطالبات ذوات الشعر الطويل ومنحتهن وقتاً أطول للاستحمام، تطوعت بعض الطالبات لمساعدتها أحياناً وبالمجان بطي الملابس المغسولة أو بتعليقها على حبال الغسيل المزدحمة.
وكان لارتفاع أجور النقل بين المحافظات دور كبير في زيادة الطلب على خدمات يسرى، فقد اختصرت غالبية الطلبة زياراتهم إلى بيوتهم وعائلاتهم لمرات أقل من السابق بكثير، كما أن لطافة يسرى ودعوتها بعض الطلبة دائمي التردد على بيتها للحصول على خدماتها إلى تناول القهوة أو الشاي خلقت مساحة من الود وملأت وقتها بالسعادة وشعرت بأهميتها البالغة.
وقد وجهت الدعوة لطالبتين على مائدة الغداء المتواضع، خاصة بعد عودتهما من زيارة أهاليهما وهما محملتان بهدايا بسيطة لكنها مخصصة لها من الأهل، هدايا رأت فيها يسرى امتناناً ومودة افتقدتهما بشدة، مما دفعها لرد الدين الجميل كما أسمته.
تؤكّد يسرى أنها كانت محتاجة فعلاً لهذا العمل وما يدره عليها من أموال رغم التعب الكبير، ورغم ضرورة التزامها بالمنزل أوقات توفر الكهرباء، بل لقد أبدت استعداداً إضافياً لغسل بعض القطع الحساسة بطريقة يدوية حرصاً على سلامتها واستدامتها، بالإضافة إلى تركيب الأزرار أو محاولة رتق بعض قطع الملابس المتضررة بشكل جزئي وبشكل مجاني.
حفظت يسرى ملابس كل طالبة تماماً، لم تخطئ يوماً بوضع قطعة ملابس لغير صاحبتها، كما أنها تعمل جاهدة على محاولة تجنيب الطالبات الحاجة لكي بعض ملابسهن توفيراً لهنّ بالنقود وبالجهد وبالوقت، فقد تعلمت طريقة خاصة لطي الملابس وخاصة لسراويل الجينز وهي الأكثر ارتداء من قبل الطالبات، كما بادلتها بعض الطالبات مودة خاصة دعمت نفسيتها وزادت من ثقتها وتقبلها للحياة القاسية، حتى إن إحدى الطالبات قالت لها ذات يوم: "غسيلك أحلى وأنظف من غسيل أمي"، فبكت يسرى فرحاً وغبطة تنتظرها وتحتاجها بشدة.