الأمراء والفقراء.. أيّهما أخطر؟

31 اغسطس 2024
+ الخط -

 الذين أعجزُ عن فهمهم، ليسوا هم الملوك، بل الأمراء. إنّهم لا يفعلون أيّ شيءٍ سوى التصرّف طيلة حياتهم باعتبارهم أمراء، يرتدون الثياب الفاخرة، يقودون السيارات الفارهة، وأيّامهم كلّها سهرات وحفلات وعطور وشمبانيا وشواطئ خاصة وجُزر لا يصل إليها القراصنة وإقامات وسط الغابات العذراء داخل قصور محروسة بالمدافع والنيازك. 

الأميرُ يكون دائمًا شابًا، بحيث يستحيلُ عليّ تخيّل أمير عجوز، والأميرة تكون دائمًا جميلة، عذراء وغير مخطوبة، ويستحيلُ عليّ أيضًا تخيّل أميرة مُرتبطة بشخصٍ ما، حشريّ، لا علاقة له بالإمارة، أو مخطوبة، أو متزوجة، فهذا يفقدها كلّ سحرها وإيحاءات اسمها الغامضة بأن تكون حلمًا مستحيلًا لكلّ رجال العالم، وكي يُشبّه بها العشاق من يحبّون، فيُصبحن أميرات مجازًا.

الأمراءُ والأميرات، نعوت ساحرة، وحظّ ذهبي بنسبة صفر في المائة لكلّ مواطن عادي، أن يصير أميرًا أو أن تصير المواطنة العادية أميرة. إلّا إذا أرادوا أن يكونوا كذلك دون إمارة. 

الناسُ يعتبرون القناعة كنزًا لا يفنى. يحرجون الأمراء بهذه الحِكْمة، أو بحكمةٍ أخرى كهذه: إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب. هنا، يصير كلّ شيء، كالكنز بهذه الحكمة، سواء تكلّمت أو صمتّ، فذلك يعني الكثير من الذهب والفضّة من لا شيء. أو هذه الحكمة: الصحة تاجٌ فوق رؤوسِ الأصحاء، لا يراه إلّا المرضى. أتخيّل أميرًا مريضًا يرى التاج فوق رأس سائق سيارته القوي الذي لا يمرض. يصيرُ الأمير الحقيقي مجرّد مريض، بينما يصير السائق أميرًا دون أن يكون والده ملكًا. 

يصوّت الفقراء فينجح الأغنياء، محوّلين الغرائبي إلى بديهي، والعجيب إلى عادي، والخارق إلى قاعدة

الأحقادُ الطبقيّة تصنع حِكمًا غريبة. يكفي أن يقول الفقير: القناعة كنزٌ لا يفنى. حتى يصير لكلماته طعم الطعام السحري اللذيذ، بينما تظلّ معدته كبيرة جدًّا وفارغة ككيس نقودِ العجزة.

لا أحد يستطيع هزيمة الفقراء، إنّهم أسياد العالم، وهم الأكثريّة أيضا، ذلك يعني أنّ الديمقراطية، بديهيًا، يجب أن تكون في صالحهم، في صالح جحافل الفقراء في مقابل الملوك والأمراء والأغنياء الذين يشكلون أقليّة يمكن سحقها في رمشة عين. لكنّ الذي يحصل عادة هو العكس، وهو أمرٌ محيّر كالسحر الأسود؛ يصوّت الفقراء فينجح الأغنياء، محوّلين الغرائبي بذلك إلى بديهي، والعجيب إلى عادي، والخارق إلى قاعدة. 

عكس ما يفعلونه أثناء صناعة الحِكم حين يحولون الكلمات إلى ذهب، هنا يحولون الذهب إلى كلماتٍ كثيرة.

لقد أفسد الفقراء العالم بحكمهم الكثيرة كالرمل، ووصاياهم التي لا تنتهي وطريقة عيشهم غير اللائقة وتشويشهم المستمر على الأغنياء. بسببهم لا يستطيع أمير السباحة في شاطئٍ غاصٍ بالمُصطافين، بل سيلزمنا أن نهيّئ له شاطئًا خاصًّا، محروسًا بالغواصات الحربيّة والأقمار الصناعيّة، وهذا ليس سببه كره الأمير للاختلاط بالفقراء، بل خطورة الفقراء على الأمراء. 

إن لم تُولد أميراً، فذلك يعني أنّك لن تكون أميراً أبداً

إن تعرّض أمير لمكروه فتلك خسارة كبيرة يصعب تعويضها بشخصٍ آخر، ليس بأمير. أمّا إن تعرّض فقير لمكروه، فذلك يشبه رمي الكيس البلاستيكي بعيدًا، الكيس البلاستيكي الذي كانت النقود مخبّأة فيه. 

تخيّل معي شخصًا يتمشّى في الشارع، وفي يده كيس بلاستيكي، يصل إلى بيته، يدخل إلى غرفة النوم، يفرغ الكيس فوق السرير، نرى حزمًا كبيرة من المال، سيعدّها الآن وبعد ذلك يخبّئها في تلك الخزنة الحديديّة التي خلف تلك اللوحة، لوحة الراعي الفقير. الفقراء شبيهون بذلك الراعي، وبذلك الكيس البلاستيكي الأسود غير المثير لأيّ انتباه، وهو ملقى قرب أرجل السرير. بينما الأمير شبيه بحزمِ المال تلك داخل خزنة الحديد المصفّحة.

أستطيع أن أفهم ماذا يعني أن تكون امرأة ملكة إنكلترا مثلا، إنّها تحكم، تؤدّي عملًا، رغم أنّه عمل مبهم كالأساطير أن تكون ملكة على إنكلترا، إلّا أنّه عمل رغم ذلك. ما لا أستطيع فهمه هو ماذا يعني أن يؤدّي رجل طويل عريض دور الأمير تشارلز سنوات طويلة قبل أن يصير الملك. 

إنّه دور فخري شديد الندرة، لن تحصل عليه بالتنقيب في جيناتكَ العادية، ولا بالتنقيب تحت الأرض ولا في الفضاء. 

إن لم تُولد أميرا، فذلك يعني أنّك لن تكون أميرًا أبدًا. إلا إذا خطبكِ أمير (إن كنتِ امرأة)، وهذا لن يحدث أبدًا، لأنّه لن يراكِ ليخطبك، أو إذا خطبتكَ أميرة (إن كنت رجلا) وهذا لن يحدث أبدًا أبدًا، فالأميرة يُفترض فيها كما قلنا أن تظلّ عذراء، وإنْ حدث وفكرت في الزواج لن تستطيع أن تتزوّج بشعبٍ كامل. أيضًا لن تستطيع أنت التجرّؤ وطرق باب القصر لخطبتها إلا إذا كنت عبد الوهاب الدكالي (هناك إشاعة رائجة في المغرب منذ سنوات، تقول إنّ المطرب عبد الوهاب الدكالي طرق باب القصر الملكي ذات يوم من أجل خطبة أميرة، وأنّ الحسن الثاني طرده).

سنضطر إذن لاختراع أميرة لكلِّ مواطن، وأمير لكلِّ مواطنة، كي يصير الشعب كلّه من الأمراء والأميرات. ويكفي أن أتخيّل كلفة ذلك حتى يُغمى عليّ. 

يظلّ الحل الوحيد المُمكن هو الحلّ الذي اخترعه الفقراء أنفسهم، بعبقريّةٍ منقطعة النظير: الحِكَم والأمثال والشعر والفصاحة. إنّها تسهّل كلّ شيء، وتمنحك الحق في تخيّلك لحبيبتك أميرة، وفي تخيّل حبيبتك لك أميرًا، لا أحد يُبايعكما على تلك الإمارة المُتخيّلة، سواكما. 

سنستغني بذلك عن تلك القصص التافهة التي تعشق فيها الأميرة حطّابًا، وسنحصل أخيرًا على قصصٍ تعشق فيها الحطّابة حطابًا، ويعشق فيها الحطاب أخت الحطابة التي عشقته أختها الخيّاطة. بينما سينشنّ الأمراء والأميرات الحقيقيون الذباب عن ظهور خيولهم...

محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.