الأقليات في المجتمع والوحدة الفضفاضة

14 ديسمبر 2024
+ الخط -

 يكاد لا يخلو مجتمع ما من أقليات تُكوّن نسيجه وقوامه، وليس هناك تعريف متفق عليه لهذا المصطلح، نظرًا لتعدّد المبادئ والأسس التي تقوم عليه، سواء كانت أسسا سياسية أو لغوية أو عرقية (إثنية) أو دينية. ومع ذلك، فإنّ علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا يُجمعون على تعريف الأقلية، بأنّها جماعة تختلف في تكوينها العرقي أو الديني أو اللغوي عن بقية سكان المجتمع الذي تعيش فيه. ولعلّ هذا التعريف يجعل من الأقليات جزراً قائمة بذاتها داخل المجتمعات التي توجد فيها، لأنّه يجعل من العدد معياراً للتمايز عن باقي الكثرة المجتمعية، ممّا يعطي انطباعاً لدى هذه الأقليات أنّها عنصر "غريب" عن المجموع.

ويساعد هذا الشعور الخاطئ ما يمارسه البعض من "المجموع" من نبذ واستهجان لثقافة هذه الأقليات، بل إنّ مسمّى "أقلية" ذاته ما هو إلا مساهمة في إذكاء هذا الشعور، الذي يجعل هذه الطوائف أو التجمّعات تنكفئ على ذاتها داخل "غيتو" يتخندق أفراد الطائفة أو الجماعة داخله.

إنّ إنكار قضية الأقليات أو تجاهلها والهروب من معالجتها أدى إلى بروزها أكثر فأكثر، كما أنّ سياسات التعصّب القومي الضيّقة الأفق ومحاولة دمج هذه الأقليات بشكلٍ قسري في المجتمع قد أدّت إلى نتائج عكسية تجلّت في تعاظم شعور الأقليات بهوياتها وتزايد نزعتها الانفصالية. كما أنّ الموضوع قد أخذ حيّزاً في الماضي حتى إنّ المشتغلين بعلوم السياسة قد أطلقوا على القرن التاسع عشر "قرن القوميات". والأمر لم ينتهِ بعد، فما زال عصرنا يمثل عصر الحركات القومية، ونحن نرى نماذجه في أكراد العراق أو جنوب السودان وغيرهم.

الديمقراطية والوحدة الفضفاضة

إنّ دمج كلّ مكوّنات المجتمع على اختلافها في بوتقةٍ واحدة، بحيث يعمل هذا الدمج في مسارين دقيقين؛ الحفاظ على التنوّع والاختلاف الذي يجعل كلّ مجموعة من مكوّنات هذا المجتمع موجودة من دون إقصاء، ومحافظِة في الوقت ذاته على "سماتها" الخاصة بها من شعائر وتراث وطقوس...، مع جعل هذه المكوّنات تتعلّق بهوية عامة شاملة تضم الجميع تحت ظلّ قانون يحفظ حقوق الجميع.

إنّ هذه المعادلة الصعبة لن تتحقّق إلا بحلّ المشكلات الاجتماعية للواقع العربي، لأنّ الواقع الطائفي كما يقول الدكتور الراحل محمد عابد الجابري: "لا يطرح نفسه كمشكِل إلّا حينما يكون الواقع الإجتماعي ككل يعاني من مشكِل عام"، وهنا مربط الفرس في الأمر.

الصوت الغربي حول الأقليات يشي بطبخة سياسية تحضّرها أنظمة الغرب للمنطقة

ولن يكون علاج هذا الواقع الاجتماعي إلا بالديمقراطية الحقيقية والعقلانية، أو بعبارة الجابري: "الديمقراطية تعني حفظ الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج". 

فقد أدّت سياسات الاستبداد والظلم الاجتماعي وغياب الديمقراطية والفساد وفشل التنمية، التي اتسمت بها أنظمة الدول القُطرية، إلى تفاقم مشكلة الأقليات، لا سيما في ظلّ تمحور معظم مشاريع التنمية في المركز وإهمال الأطراف حيث الأقليات غالباً؛ فبدا الأمر في كثير من الأحيان وكأنّه انحياز من النظام للأكثرية ضدّ الأقلية في توزيع الخدمات.

بيد أنّ الدكتور عبدالوهاب المسيري يقدّم رؤية جديدة لموضوع الأقليات ذات الهويات المتعدّدة واندماجها في المجتمع، إذ يقول: "يجب أن نطرح مفهوماً للوحدة غير العضوية، في ما أسميه "الوحدة الفضفاضة" التي تفسح المجال أمام كل الجماعات الإثنية والدينية أن تعبّر عن هويتها، طالما أن هذا التعبير لا يفت في عضد سيادة هذه الدولة. فالنظام التعليمي، مثلاً، ينبغي أن يقبل بالتعددية. إذ تسمح هذه الوحدة الفضفاضة لكلّ دولة أن تدخل في إطار الوحدة العربية دون أن تفقد ما يميّزها؛ فالمغرب، على سبيل المثال، بلد عربي إسلامي، يتسع لجماعات أخرى مثل الجماعات الأمازيغية، والعراق بلد عربي إسلامي يتسع للسُنَّة والشيعة والأكراد والتركمان. وذلك أنّ مفهوم الوحدة الفضفاضة سيخلق لكل جماعة فضاءها الحضاري الخاص بها، وسيندرج الجميع داخل إطار التشكيل الحضاري العربي، ولعل ما حققته الدول الأوروبية من خلال الاتحاد الأوروبي قد يكون نموذجاً نسترشد به".

أسوق هذا الكلام في ظلّ تعالي الأصوات التي تقول إنها "تخاف" على مستقبل الأقليات في منطقتنا العربية بعد ما جرى فيها من أحداث، خصوصاً في سورية.

الصوت الغربي حول الأقليات يشي بطبخةٍ سياسيةٍ تحضّرها أنظمة الغرب للمنطقة، وتتكئ على موضوع الأقليات؛ تلك القنبلة الموقوتة والموجودة في مجتمعاتنا العربية. ولا أظن أنّ المنطقة ينقصها اشتعال جديد على ما هي عليه من حرائق. والموضوع لا يُحلّ في يوم وليلة، لأنه موضوع متجذّر في الهوية، ويحتاج إلى سلطة واعية بأبعاده وألغامه المخفية تحت السطح.

لكلّ بلدٍ عربي جملة من المشاكل المستعصية، ضخّمها ما كانت تقوم به الحكومات المتعاقبة على تلك البلدان من ترحيل للمشكلات من حكومة لأخرى، ثم نريد في لحظة حلّ تلك المشكلات دفعة واحدة!

وإذا كان موضوع الأقليات قد استحوذ على الخطاب الغربي، فالكرة في ملعب الأقليات نفسها، إذ عليها أن تكون واعية لمّا يُراد منها ولها، وأن تنتصر لمستقبلها على أرضها العربية، لا أن تكون يداً للآخرين.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري