الأصدقاء.. أطواق نجاة ملونة
في 30 يوليو/ تمّوز من كلّ عام، يُحتفل بيوم الصداقة العالمي. رغم ذلك لم يستطع هذا الاعتراف العالمي بوجود الصداقة أن يمنع البعض من نفي وجودها، أو النظر إليها بشكل سلبي واعتبارها أحد أشكال المصلحة المستترة بثوب اسمه الصداقة، والمَثل الشعبي الذي يرددّه كثير من الناس يدل بشكل ما على ذلك: "احذر عدوّك مرةً واحذر صديقك ألف مرة". يجري ترديد هذا المَثل أحياناً بعد سماع قصص الغدر والخيانة التي قام بها أشخاص تجاه أصدقائهم، أو لتحذير الأشخاص الذين يتحدثون عن علاقتهم القوية بأصدقائهم.
من جهة أخرى، ورغم كلّ القصص السلبية التي تُقال عن الصداقة هناك كثير من الناس يؤمنون بوجودها بالمعنى الإيجابي، ولديهم صداقات حقيقية وعميقة، وبالطبع أنا منهم.
موت الأصدقاء
ولدتُ، ولم يمنحني أحد في الوجود الحرية في أن أختار والديّ وإخوتي وجنسي ولون عينيّ وغير ذلك... لكنني كنت حرّاً في اختيار أصدقائي.
في عام 2011، هاجر أحد أعزِّ أصدقائي خارج البلاد، ما جعلني أفكر؛ كم هو مؤلم وقاسٍ أن يكون لديك أصدقاء مقرّبون تحبّهم، وأنت تعلم بأنه قد يأتي يوم ويموتون فيه قبلك، وتُحرم من رؤيتهم إلى الأبد!
كم هو مؤلم وقاسٍ أن يكون لديك أصدقاء مقرّبون تحبّهم، وأنت تعلم بأنه قد يأتي يوم ويموتون فيه قبلك، وتُحرم من رؤيتهم إلى الأبد!
يااااه، كم هو مُفجع ومُرعبٌ موت الأصدقاء! أحياناً يخطر في بالي أن أتصل بكلّ أصدقائي المقرّبين وأقول لهم: لم أعد أريد أن أتواصل معكم، مع أنني أحبّكم، وأفرح وأرتاح لوجودكم في حياتي؛ لأنّ هذا الحب سيجعلني أتألم وأشعر بالفجيعة حين تموتون، وذكرياتي معكم سترهقني نفسياً، وربما تجعلني أدخل في حالة من الكآبة الشديدة مدى الحياة. لكنّني لا أفعل، ولن أفعل ذلك أبداً... لماذا؟ لأنّ حجم الفرح والسعادة الذي أعيشه برفقتهم يستحق أن أدفع ثمنه الكثير من الألم والفجيعة والكآبة بعد موتهم، ولأنّ حياتي بلا أصدقاء ينقصها أحد أهم معاني الجمال والوفرة والعذوبة.
برأيي الشخصي، هناك جزء من حزني وألمي على موت أصدقائي وكلّ من أحبهم، له علاقة بأنانيتي وحبّي لذاتي، بمعنى آخر موتهم سيجعلني أفقد المتعة والشعور الجميل اللذين أحصل عليهما في كلّ مرة ألتقي بهم. وفقدان هذه المتعة وهذا الشعور يسبّبان الألم والحزن.
الأصدقاء المقربون
أحبّ كوكب الأرض أكثر من كلّ كواكب المجموعة الشمسية، وأحبّ مدينتي اللاذقية أكثر من كلّ مدن العالم، وبرأيي فإنّ أجمل وأهم شيء في التاريخ الحديث لهذه المدينة هو: أصدقائي، والعدد الهائل من الجميلات الأنيقات فيها.
الأصدقاء وجميلات اللاذقية، أحد الأسباب الجوهرية التي منعتني من الهجرة إلى خارج البلاد، بل ومنعتني من الانتقال إلى العيش في مدينة سورية أخرى. ومن أسباب عدم هجرتي أيضاً هو مقهى قصيدة نثر الذي أسّسته مع صديقي، بريء خليل، عام 2008، والذي بسببه أصبح لديّ عددٌ كبيرٌ من الصديقات والأصدقاء الرائعين الذين أتشارك معهم السهرات والأحاديث، ونهتم ببعضنا بعضاً على الأصعدة كافة قدر المستطاع. للأمانة التاريخية، كان هذا المقهى أيضاً سبباً في كلّ علاقات الحب الرائعة التي عشتها مع فتيات ذكيات، جميلات، أنيقات.
من بين كلّ هؤلاء الأصدقاء، هناك فقط 15 صديقة وصديقاً مقرّبين جداً، وبناءً على رؤيتي للصداقة، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات من جميع الجوانب، أرى أنّ هذا العدد من الأصدقاء كبير، ومما لا شك فيه أنّ هؤلاء الـ 15 هم "الأقلية الهائلة" التي تجعلني أشعر دائماً بأنني شخص محظوظ جداً في هذه الحياة.
لماذا هم مقرّبون أكثر من غيرهم؟ لأنهم أوغاد رائعون، يمكنني أن أُظهرَ ضعفي وهشاشتي أمامهم، وأبوح بأسراري العميقة والحسّاسة، وأعترف بأخطائي وحماقاتي وغير ذلك، دون أن أفكر للحظة واحدة، بأنهم سيحاكمونني أخلاقياً أو يلقون عليّ اللوم أو يفشون أسراري. بمعنى آخر، لا أشعر معهم بالقيود والضوابط، بل بالحرية والخفة والراحة.
كثيرةٌ هي المرّات التي أنقذني فيها أصدقائي من الكآبة والإحباط، ومنحوني المعنى والطمأنينة والضحك
لماذا هم مقرّبون؟ لأنهم فرسان الطاولة المستديرة، الذين أراهن عليهم في المواقف الصعبة واللحظات الحاسمة في شتى مجالات الحياة، وكلّي ثقة بأنهم لن يخذلونني وسيفعلون كلّ ما يستطيعون من أجل دعمي ومساندتي، وحين أرتكب خطأً ما بحقهم مهما كان كبيراً لا يتخلون عن صداقتي، بل يلتمسون لي المبرّرات؛ أقصد الكثير من المبرّرات. يفعلون كلّ ذلك بدون أي مصلحة أو هدف أو غاية، لأنهم يحبونني ويفهمونني. كثيرةٌ هي المرّات التي أنقذني فيها أصدقائي من الكآبة والإحباط، ومنحوني المعنى والطمأنينة والضحك. إنهم نوع نادر من الأوكسجين، وأطواق نجاة ملونة.
ملاحظة: أصدقائي يعتبرونني أيضاً صديقاً مقرّباً لهم، للأسباب ذاتها التي ذكرتها.
أشعر بالغربة مع أنني لم أهاجر
كتبتُ مرة على "فيسبوك": حين يغادر الجميع المنزل، آخر من يخرج يغلق الباب خلفه. باقٍ أنا إلى أن يهاجر آخر الأصدقاء كي أغلق باب المدينة خلفه.
مِنَ المؤلم والمؤسف بالنسبة إليّ، أنّ هناك عدداً من الأصدقاء قد هاجر خارج البلاد، ومن بينهم الأقرب والأعز إلى قلبي وهو "بريء خليل" الذي بدأت صداقتي معه منذ كان عمري 18 سنة. بعد هجرته بحوالي ستة أعوام التقينا لأول مرّة في بيروت. كان بيني وبينه أمتار عدة حين ألقى دعابة وضحكنا، ثم سلّمنا على بعض بطريقة عادية، وكأنّ غياب السنوات الست لم يكن سوى يومين فقط، متابعين المزاح والضحك وسرد الذكريات الجميلة. والذكريات الجميلة، كالمجازر البشعة لا يمكن نسيانها! لم يكن هناك شيء يضاهي فرحتي بلقائه، إلا شعوري بأنّ صداقتنا ما زالت كما هي رغم كلّ سنوات الغياب.
غالبية من هاجر من أصدقائي حين أتواصل معهم، يتحدثون عن شعورهم بالغربة، بغضّ النظر عن تعريف كلٍّ منهم للغربة. ومن خلال كلامهم اكتشفت أنّ:
- الغربة ليست أمك، بل زوجة أبيك القاسية، وأنت اليتيم جداً.
- الغربة، هي أن تسهر حتى الصباح لتتحدث مع أصدقائك خارج الوطن عبر الإنترنت، هم الأصدقاء ذاتهم الذين كنتَ تسهر معهم في غرفة واحدة، تسكر وتضحك حتى الصباح.
- الغربة، إهانة أحياناً.
- في الغربة، ولأنك تخاف من الوحدة تزدحم غرفتك بالذكريات والبكاء.
حين أحصي عدد أصدقائي الذين هاجروا أشعر بالغربة، وبأنّ رامي غدير كان اسمي فيما مضى، والآن صار اسمي: الذي هاجر أصدقاؤه! هذا الاسم يجعلني أشعر بالغربة والوحدة أيضاً.
خلال الـ 45 عاماً التي عشتها على هذه الأرض لم تستطع علاقتي وشغفي بالكتابة، وحبّي للأفلام السينمائية والموسيقى وكرة القدم والتدخين وغير ذلك، أن تقدّم لي فرحاً وراحةً ومعنًى يضاهي علاقتي بأصدقائي المقرّبين.