الأشرار يشربون الخمر... الأخيار يشربون الشاي
أثناء تصوير أحد الأفلام التاريخية عن بداية الإسلام، كان البلاتوه منقسماً إلى قسمين: جانب المؤمنين الذين كانوا يتعرّضون للتعذيب من قبل عتاة قريش الكفار، فيعطشون ويجوّعون ويُجلدون وهم مقيّدون إلى أوتاد في الصحراء. أما في جانب الكفار، فقد كانت تمدّ الموائد ويقوم رجال ضخام، حرص مسؤول الماكياج على إبرازهم متوّحشين، بالتهام الذبائح بشراهة وشرب الخمور مقهقهين، وقد انصرفوا إلى مغازلة الغواني والراقصات. طال التصوير، وفي الاستراحة، اقترب أحد الممثلين في صف المؤمنين من المخرج، وقد حبكت معه النكتة قائلاً بصوت خفيض: "هل من الممكن أن تنقلني إلى صف الكفار؟".
تلخص هذه القصة التي سمعتها مرّة سأم الناس من الكليشيهات التي، بمبالغتها الولادية، تنفّر الناس مما يجب أن تُحبّْبهم به.
هكذا، وبعد فترة من الاطلاع على الدراما التركية في أوائل انتشارها، اهتممت بمتابعة التاريخية منها، كونها قدّمت وجهة نظر الأتراك بتاريخهم، خاصة الفترة التأسيسية للإمبراطورية العثمانية. ففي النهاية، هي روايتهم لهذا التاريخ الذي عشنا وإياهم في ظلّه أربعة قرون متتالية، لكننا لم نسمع عنه إلا وجهة نظر المنتصرين في الحرب على الإمبراطورية. وهي وجهة نظر، وإن كان بعضها مستنداً إلى حقائق، إلا أنها عامة ظلمت هؤلاء، فلم تذكر أيّاً من إنجازاتهم أو أفضالهم، أكان ذلك على صعيد تنظيم الدولة، أو تشريع القوانين كما في قانون الجمعيات الذي لا زلنا نعمل به حتى اليوم (علم وخبر)، أو في أيّ مجال آخر من نواحي الحياة التي كانت أيامها.
ولا شك أنّ انعدام التواصل اللغوي مع الأتراك وإنتاجهم الأدبي والتاريخي لعب دوراً هاماً في غياب أيّة "مقاومة" للرواية المنتصرة، ما خلا أعمال بعض الباحثين والمؤرخين الرصينين الذين لم تتداول أعمالهم على صعيد واسع لتشكّل كفة الميزان الأخرى.
لذا، كانت الدراما التركية التاريخية بالنسبة لي فرصة لا تعوّض للتواصل مع هذا الجزء من ماضينا المشترك، بعد دبلجتها، ولاحقاً ترجمتها إلى العربية.
هكذا، تابعت بانتباه شديد هذا الإنتاج. وكنت كلّما ذكر المسلسل اسماً أو حادثة ما، أسارع إلى الإنترنت، باحثة عن القصة خلف هذا الاسم أو تلك الحادثة، أو ألجأ إلى أصدقاء مختصين بالتاريخ، رغبة بالاطلاع على كافة وجهات النظر، واستخلاص ما كانت عليه الأمور فعلاً بالمقارنة بين الروايات.
انعدام التواصل اللغوي مع الأتراك وإنتاجهم الأدبي والتاريخي، لعب دوراً هاماً في غياب أيّة "مقاومة" للرواية المنتصرة
في البداية تابعت مسلسلات كانت جيدة، لكن للأسف لم تتكرّر جودتها. كمسلسل "تذكر يا عزيزي" الذي تناول تاريخ تركيا المعاصر منذ الأربعينيات إلى الثمانينيات، بنسيج متماسك وأحداث أثبتت المراجع على اختلافها صدقيتها، ولو كانت تعبّر عن وجهة نظر سياسية يسارية تشبه مرحلة الستينيات التي عمّ فيها التفكير اليساري والاشتراكي والنقابي في العالم أجمع.
ثم كان مسلسل "أنت وطني" عن كفاح مدينة إزمير نهاية الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى الاستقلال الذي حققه "أبو الجمهورية" مصطفى كمال أتاتورك. ومسلسل "الذئب سعيد" (أو معرّباً بعنوان ليث وشورى) عن سقوط القرم وانهيار الدولة العثمانية، كان استثنائياً بوصفه الاجتماعي والسياسي لأحداث تلك الحقبة المفصلية والمؤثرة، وخاصة بتفاصيل اليوميات التي عانى منها الأتراك المضطرون للنزوح من مسقط رأسهم في القرم الى إسطنبول، كتلاشي قيمة النقد المتداول يومها، وبالتالي ثرواتهم، بين ليلة وضحاها، أو فقدان عائلات النازحين بعضهم بعضاً في خضّم تلك الأحداث.
لكن ما يؤخذ على الدراما التركية، التي امتلكت أخيراً فرصة الردّ على عقود من البروباغندا بفضل تواصل لغوي أمنته الترجمة والدبلجة، أنها وقعت، أو وقع بعض إنتاجها، في فخ الشيطنة نفسه الذي عانى منه الأتراك. كان من الممكن "تفهم" ذلك في البداية، فهي ردّة فعل على عشرات السنين من التنميط الكاريكاتيري، كتصوير التركي واختزاله بشخص يعتمر الطربوش الأحمر منصرفاً إلى تسقط البقشيش والتخطيط للغدر بالأصدقاء. لكن الأمر تفاقم بعد ذلك، حتى صار اتجاهاً منفّراً، حتى لمشاهد متعاطف.
قد يكون الجمهور المستهدف بتلك الدعائية المبالغ فيها للتاريخ القومي التركي الجمهور المحلي. لكن فات صنّاع الدراما تلك حساب ردّة فعل المشاهدين خارج حدودهم، أو أوحوا على الأقل، أنّ الأمر لا يهمهم.
هكذا، توالت مسلسلات تاريخية، كانت كلما زادت شعبيتها، زادت فيها كمية الكليشيهات القومية والدينية، وبُسّطت فيها الشخصيات لدرجة كادت تختصر الناس، كما يشير عنوان المقالة، إلى نوعين: "كفار" يتآمرون ويعربدون ويتعاطون كلّ الموبقات الدنيوية، و"مؤمنون" أتراك ملتزمون بالتقاليد وتعاليم الدين.
والبروباغندا في الدراما، إن كانت تركية أو هوليوودية أو عربية، مثيرة للاهتمام بنسختها الأولى لأنها تحكي شيئاً عن صانعيها، لكنها تصبح مضجرة لدى تكرارها بنسخ لاحقة متكرّرة.
فمنذ مسلسل "القرن العظيم" الذي دبلج إلى العربية تحت عنوان "حريم السلطان" في محاولة للفت انتباه جمهور عربي، يعتقد الموّزعون أنه يعشق مواضيع صراع الحريم، توالت المسلسلات عن حقبة الدولة العثمانية منذ تأسيسها. كان "أرطغرل" أولاً، وقد كان جيداً في مواسمه الأولى، ثمّ "نهضة السلاجقة"، "الخوارزمي"، "كوت العمارة"... إلخ. وحالياً لا يزال يُعرض "المؤسس عثمان" الذي دخل موسمه الرابع بملل لا يوصف، وانتهاء بمسلسل "خير الدين بربروسا" الذي لا يقل عنه إثارة للضجر.
ونحن حين نقول بروباغندا، نقول سياسة. هكذا، دخل على الخط منتجون وكتّاب كانت أعمالهم أقرب إلى الدعائية الفجة الموّجهة، خاصة تلك التي أنتجها (وكتب بعضها) محمد بوزداغ، القريب على ما يبدو من دوائر السلطة. كما جرت أحداث أوحت، شيئاً فشيئاً، بأنّ هذه البروباغندا غير بعيدة عن "التشجيع" الرسمي. وربما كان أبرز هذه الأحداث زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وعائلته موقع تصوير مسلسل "أرطغرل"، مشجعاً ومثنياً على صنّاعه، مثبتاً بذلك قربه من مضمونه الأيديولوجي.
دخل على الخط منتجون وكتّاب كانت أعمالهم أقرب إلى الدعائية الفجة الموّجهة
ولقد تحمّس هؤلاء لهذه الزيارة التي جرى تداولها على "يوتيوب" ومواقع التواصل بشكل كبير، وتباهوا بها لدرجة أنّ البطل في إحدى الحلقات، وبدلاً من أنّ يقول "البطل أرطغرل" قال... أردوغان!
يومها قفزت عن كنبتي غير مصدّقة، وحاولت التفتيش عن الحلقة على "يوتيوب" لأتأكد مما سمعت وأنا أفكر: هل كانت زلة لسان؟ وكيف يمكن أن تكون كذلك؟ وهل يستطيع المدبلج أنّ يدسّ شيئاً كهذا في متن السيناريو؟
لكن مسلسل "أرطغرل" كان مجرّد النسخة الأولى المثيرة للاهتمام، بعدها، توالت سيناريوهات كانت تتدهور فيها، إضافة الى قيمتها الوثائقية، جودتها الفنية: مشاهد القتال المطوّلة بين "المؤمنين والكفار"، مشاهد الركض على صهوة الأحصنة في الغابات التي تضاهيها طولاً، لدرجة أننا لو حذفنا نصف تلك المشاهد المتكرّرة لما تجاوز طول الحلقة نصف ساعة! ما ذكرني بعبارة ساخرة قالها دريد لحام في رائعته "تصوير فيلم عربي" التي كان ينتقد فيها تدهور مستوى الإنتاج الدرامي العربي، حين قال لصاحب قناة تلفزيونية أراد أن يشتري منه مسلسلاً: "هادا مسلسل 13 حلقة، بس إذا صفنوا الممثلين شوي، بيصير 26".
إلى ذلك، افتقرت حلقات المواسم الأخيرة إلى الأحداث والعقد الدرامية التي تبرّر طول المسلسل، والتي لا تستند إلى الوثيقة بقدر ما تستند إلى التبرير المعلن عنه في التتر: أي إنها "مستوحاة" فقط من التاريخ. هكذا حفل السيناريو بمؤامرات متكرّرة ينسجها "الكفار" مع الخونة من العرب أو حتى الأتراك أو المغول، ضد المؤمنين ببطل المسلسل، الملهم، والموحى إليه بقدره في رؤيا، والمدعوم من طرق صوفية كثيرة، وبالتالي الذي يمثل مستقبل الأتراك والضمانة لـ"النظام العالمي"، حسب تعبير السيناريو، والعدالة... وأكاد أقول التنمية!
استخدام وصف "الكافر" الديني بإفراط في الدراما التركية، بدلاً من الوصف السياسي، بدا سلوكاً تبسيطياً، يضيف إلى تفاهة الشعبوي المعروفة خطورة عنصرية
ولقد أدرك منتجو تلك المسلسلات على ما يبدو مضار هذا التنميط للمسيحيين والعرب وحتى المغول، فسعوا في إنتاجهم المتأخر إلى رسم شخصية "إيجابية" واحدة على الأقل من معسكر "الأعداء". فأصبح لدينا على سبيل المثال أرمني جيد يدخل في الإسلام لاحقاً لإيمانه بصوابية البطل الأخلاقية والدينية، أو ابنة رائعة الجمال لملك أو قائد صليبي، تقع في غرام بعض تابعي البطل (لا البطل نفسه) وتتزوّجه ثم تدخل في الإسلام... إلخ.
صحيح أنه، في القرن الثالث عشر، كانت هناك حروب صليبية، ومن الطبيعي أن يكون هناك استعداء بين أتباع الديانتين على خلفية سياسية ودينية واقتصادية. لكن كان من الممكن الإشارة إلى هؤلاء الأعداء بما كانوا يصفون به هم أنفسهم، أي "الصليبيين". وأقصد بذلك وصفاً سياسياً بدلاً من وصف "الكفار" الديني. لكن استخدام وصف "الكافر" الديني بإفراط، مع أنه كان متداولاً في تلك الأيام، وإسقاطه على التاريخ المعاصر بدلاً من الوصف السياسي، بدا سلوكاً تبسيطياً، يضيف إلى تفاهة الشعبوي المعروفة خطورة عنصرية.
ربما لهذا امتنعت قنوات كثيرة خارج حدود تركيا عن بث تلك المسلسلات، خاصة في البلدان المتنوعة طائفياً مثل لبنان، فخسر منتجو تلك الأعمال فرصاً لربح كثير، كما فعل منتجو "القرن العظيم" مثلا الذي غزا العالم وترجم إلى أكثر من أربعين لغة.
والأهم أنه إن كانت أهدافهم سياسية، فقد خسروا تعاطفاً مع روايتهم لتاريخهم من قبل جماهير كانت مستعدة إلى حد ما لتقبّل تلك الرواية، بمقدار ما كانت مرحبة بالانفتاح المستجد لتركيا على محيطها في العقدين الأخيرين.