اتحاد الشغل وروّاد "الطريق الثالث"
انسداد الأفق السياسي في تونس فتح الباب لتقديم بعض المبادرات التي تهدف إلى إيقاف الانزلاق الخطير الذي تتجه إليه البلاد. و"الطريق الثالث" هي المبادرة الأهم التي يهمّ اتحاد الشغل بتقديمها كحلّ، إلا أنّ أهمّ سمات هذه المبادرة، من خلال ما رشح منها على لسان قيادات وازنة بالاتحاد، أنها استئصالية تدعم بعض الفصائل السياسية، وتقصي الإسلاميين وشخص الرئيس قيس سعيد.
مبادرة الطريق الثالث ضيقة جداً، مقارنة بحجم الطيف السياسي التونسي، حيث اشترط الأمين العام لاتحاد الشغل، السيد الطبوبي، وبعض مساعديه، بأن مبادرتهم لا تشمل كلّ من شارك في ما يسمونه بالعشرية السوداء من حكم تونس، أي عشرية ما بعد اندلاع الثورة، ما يعني إقصاء الأحزاب الأهم التي جاء بها صندوق الاقتراع في ثلاث انتخابات برلمانية على الأقل، وهو ما يثبت امتدادها في الشارع التونسي، وتمثيلها لطيف واسع منه، ومعها أحزاب أخرى، حتى وإن لم يمثلها الصندوق، فإنها متمسّكة بنتائج الانتخابات وبمبادئ الديمقراطية، حسب ما تقول وما تحاول أن تفعل على الأقل. وقد نسي اتحاد الشغل أنه هو الطرف الوحيد الذي لم يغب عن المشاركة في كلّ مراحل الحكم منذ استقلال تونس إلى الآن، بما في ذلك العشرية السوداء، ناهيك عن أن لا أحد من الطيف السياسي والمجتمعي لم يشارك في وضع ما بعد الثورة، إما بالبناء أو الهدم، وهو ما نتج عنه وضع تونس الحالي.
إضافة إلى ذلك، فهذه المبادرة لا تتسع للذين يعتقدون بأنّ مسار 5 يوليو/تموز هو انقلاب، وهذا ما صرّح به الكاتب المساعد لاتحاد الشغل حفيظ حفيظ. مثل هكذا تفكير قروسطي، والذي يدعو إلى إقصاء ما يفوق 90 بالمائة من الشرائح السياسية في تونس، من يمينها إلى يسارها، وهو ما تثبته يومياً تصريحات الأحزاب، ما عدا حركة الشعب والتيار الشعبي وجزء من حزب الوطن، هذا الفكر حتماً لن يحمل مبادرة صالحة للوطن، وإنما هو تذكرة ذهاب إلى أحد طريقين: إما إنشاء دكتاتورية بوليسية دموية حاكمه تقمع أغلب الرافضين، أو إلى حرب أهلية لا آخر لها، باعتبار أنه لا يجوز لأحد أن يقصي غيره في الوطن الواحد، وهو ما يضطر المضطهد إلى الدفاع عن حقه المشروع في الوجود.
مبادرة الطريق الثالث استئصالية تدعم بعض الفصائل السياسية، وتقصي الإسلاميين وشخص الرئيس قيس سعيد
وليس هذا فقط، فالمبادرة لا تفتح أبوابها إلا للمؤمنين بمبادئ مسار 25 يوليو، وهذا المسار يعني في الحقيقة التخلّص من وجود الإسلاميين في الحكم، أو حتى مشاركتهم الرمزية فيه. ولما عجزت الانتخابات الحرّة عن إقصائهم جاء تأويل الفصل 80 في إرغام قاهر لنص الدستور، وأزاح الإسلاميين من مواقعهم في السلطة. والأخطر من هذا، أنّ اتحاد الشغل يعتقد بأن الرئيس قيس سعيد حاد عن مبادئ 25 يوليو باعتبار أنه لم يف بوعوده في سحق الإسلاميين، وهو الذي حاول ولم يجد خطيئة واحدة لهم، تعيدهم إلى السجون. ولذلك تضمنت مبادرة "الطريق الثالث" الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، لتغيير قيس سعيد الذي حاد عن طريق 25 يوليو.
في المحصلة، مبادرة الطريق الثالث هي خطة جريئة ومخاتلة من اتحاد الشغل، تهدف أساسا إلى إقصاء الإسلاميين، ومن دار في فلكهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تهدف إلى إقصاء الرئيس قيس سعيد الذي حسب أنّ صانع 25 يوليو، أنه لم يف بوعوده في فتح باب المحرقة للإسلاميين، مثلما فعل أسلافه الرئيسان الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. إلا أنّ هذه المبادرة الضيقة، والتي لا تتسع إلا للقلّة القليلة من طيف الشعب التونسي على حساب الأغلبية، سيكون مصيرها الإهمال، وأما تمريرها بالقوة فما هو إلا تأزيم للمأزوم.
تونس الجريحة اليوم تحتاج إلى الجميع حتى يعيدوا ترتيبها على أساس ديمقراطي، ينبني على سلطة القانون والمحاسبة وتحمّل المسؤوليات، لا على المغالبة والإقصاء.