إسقاط جوي.. أم سقوط؟
خمسة أشهر من المجاعة، والإبادة، والجفاف، والمحرقة، والمجزرة، والمذبحة، والمقتلة، وكلّ ما يصلح على ذلك القياس وما لا يصلح، من كلمات اللغة البائسة، التي عجزت لأوّل مرّةٍ عن الوصف، وكُبّلت حروفها عن التعبير، ووقفت بلا فائدةٍ أمام صمم السامعين، وعدمت البلاغةَ في حضور الحاضرين الغائبين، وفقدت حركاتها وسكناتها أمامَ سكون الساكتين القاعدين، وجلست هي الأخرى تندب حظها، وتلعن نفسها، وتجلد ذاتها، أنّها لم تقّدم لغزّة في حدّ ذاتها إلا الكلام، وآهٍ وألف آهٍ لو كانت الحروف تستحيل أفعالًا، ولو كانت الخطب الرنانة تُوقف الطائرات الزنانة، ولو كان الحديث الذي يلوكه الساسة بارودًا، ولو كانت الأقوال مجهودًا، لمنع فيضان الدماء، بفعل طوفان الثأر والكرامة، لا يأتي على مزيدٍ من الأماكن والأرواح؛ كم حزينة هي اللغة أن تُستغل بتلك الدناءة، في أن يجمّل البعض وجوههم، أن يلمعوا أفعالهم، أن يصفّفوا شواربهم وثغورهم، لتنطلق الكلماتُ بمساحيق التجميل، أفضل بقليل.
حائرةٌ هي اللغة، وحائرٌ هو قلمي، في التوصيف والتعبير، وفي إصابةِ كبد الحقيقة بعين الكلام، دون مجازٍ ولا مجازفة، ولا استسهال ولا مبالغة، هل ما يُلقى في البحر من فتات، وما يُرمى على الشاطئ الواسع من حبّات طعام ودواء، وما يُقذف به من علٍ ليُطعم مائة إنسان من وسط مليون إنسان، يسمَّى "إسقاطًا" أم "سقوطًا"؟ وهل تُقارن الأفعال باللاأفعال، أم تقارن الأفعال بميزان الواجب والمفترض والمنتظر والضرروي؟ هل نقول إنّ من أسقط خيرٌ ممن لم يسقط شيئًا، ومن أرسل القليل خيرٌ ممن لم يرسل شيئًا؟ أم نقول إنّ كليهما مجرم؟ أم نقول إنّ كليهما شريكٌ في الإبادة، تارةً بالتواطؤ، وتارةً بالخيانة، وتارةً بالسكوت، وتارةً باتفاقات الغرف المغلقة، وتارةً بالمشاهد الهوليوودية المصطنعة، وتارةً بالتنسيقات الخائنة، وتارةً بالمشاهد الذليلة، وتارةً بالجسور البرية لإمدادات العدوّ، وتارةً بالحركات البهلوانية أمام الجمهور المتشوّق لأيّ تصفيق حار، وتارةً بالعربية المكسّرة على صخور البرود والخسّة والقمع؟
هل نقول إنّ من أسقط خيرٌ ممن لم يسقط شيئاً، ومن أرسل القليل من المساعدات لأهل غزّة خيرٌ ممن لم يرسل شيئاً؟ أم نقول إنّ كليهما مجرم؟
أن تحاصَر غزّة، في فلسطين، التي تملك وصايةً هاشمية تاريخية على أثمن ما فيها، وأن يُباد أهلها الذين يسكن كثير من أهاليهم وعائلاتهم في بلادك المنتمي ترابها إليهم هو الآخر، وأن تجوع غزة، وتجوّع، وأن تعطش وتظمأ، وتموت جفافًا، وأن يُسفك دمها، ويراق، وأن تزهق أرواحها، ويموت أبناؤها، شوقًا إلى "قلاية بندورة" تغيثهم من الجوع المميت، بينما تذهب القوافل والأساطيل، وتمتدّ البضائع مرصوصة في الحاويات، من البندورة، والخيار، وألف شيء غيرها، نحو جيش الاحتلال نفسه، الذي يقتل غزّة، ثم بعد ذلك كله، تُلقي كلّ عدّة أيام، خمسة صناديق، أو عشرة، أو حتى ألفًا، إلى غزّة، فأنت شريكٌ في إبادتها، بل وإجرامك أنك تحاول أخذ اللقطة التي تطهّرك من دنس الخيانة، على حساب أطفالها، وأشلائهم ودمائهم.
والشريك الآخر، الجالس خلف معبره المغلق، وحاجزه منزوع السيادة والنخوة، الذي يتحجج بالإذن الإسرائيلي، محتجزًا خلف السور ألفي شاحنة مساعدات، باستطاعتها منح غزة أسبوعًا بلا جوع ولا عطش، بينما لن تمنع عنهم الموت بالقصف حتى، لكنهم على الأقل إن ماتوا فلن يرحلوا جوعى، ولا يفارقوا عطشى، ولن يأكلوا الركام بدلًا من الطعام، وهم راحلون من الدنيا.
أن تجوّع غزّة كلّ ذلك الوقت، وأن تشتاق للقمة خبزٍ طيلة نصف عام، ثم تُرمى لها فتات ما تبقى من الإمدادات العابرة إلى "الشقيقة إسرائيل"، فذلك ليس إسقاطًا جويًّا، وإنّما السقوط المدوي، في عُرف الأحرار، والكرام، والشرفاء، ومن يعرفون غزّة وتعرفهم، ومن يحبّونها وتحبهم، لا من يشاهدونها تُباد وينتظرون منها بعد المظلات الهاوية فوق الأمواج سجدة شكرٍ لأصحاب الفخامة، والنشامة، والسموّ!