"إحنا ليه يا أخي منكره بعض"؟
اليوم، وأنا أقفُ في طابورٍ في مكانٍ ما، كانَ أمامي رجلٌ سوري وخلفي رجل فلسطيني. نظرَ السوريُّ مليًّا إلى الفلسطيني، وسأله: الأخ عربي؟ أجابه: نعم فلسطيني. ردّ عليه السوري مباشرة: إحنا ليه يا أخي منكره بعض؟
كان ذلك ممّا صدمني، حيث إنّ هذه الجملة الغريبة كانت هي افتتاح التعارف بينهما.
وهذا هو ما لاحظته منذ سفري:
كلّ الدول العربيّة والدول المغاربية، وكلّ الدول التي تشتركُ في اللغةِ العربية، وفي الإسلام أيضًا، يبدو أنّ بعضها تكرهُ بعضًا، إذا ما أخذنا هذه العبارات على محملِ الجِدّ. كراهية مبطنة أحيانًا، ومُعلنة أحيانًا، حتى حين يتحدّث مواطن من دولةٍ عن حبّ دولةٍ أخرى، وأنّنا "إخوة يا أخي"، وأنّنا "كلّنا مسلمون وكلنا عرب والمشكل في الأنظمة وليس في الشعوب". وحتى حين أسمع شخصًا يقول شيئًا كهذا، أرى في عينيه، أحيانًا، شيئًا آخر وأسمع في صوتِه شيئًا آخر. فمع أوّل اختلاف يكون مستعدًّا لسبّ تلك الدولة بأقذع الشتائم، ووصف شعبها باختزالٍ سريع بالخيانة أو بالعهر أو بالعمالة.. إلخ.
مرارًا، سمعتُ غزلًا متبادلًا بين مغاربة وجزائريين، سوى أنّه ظل دائمًا غزلًا حذرًا ومشروطًا وآيلًا إلى الانفجار إلى هجاء.
لا يمكن أن نقولَ شيئًا سيئًا عن بلداننا التي هجرناها إلا حين نكون نحبّها أكثر من كلّ بلدانِ العالم
أكثر من ذلك: بعض أبناءِ البلد الواحد من هذه البلدان يتجنب بعضهم بعضاً ولا تأتي من بعضهم في اتجاه بعضهم الآخر (في أغلب الأحيان) سوى المشكلات. وكثيرًا، ما نَصحني مغاربة بتجنّب المغاربة هنا. لا أستطيع أن أفهمَ ذلك بسهولة، أو أن أستوعبه، سوى أنّه شائعٌ للغاية، بل لقد أصبح قاعدةً قائمة بذاتها غير قابلة للتشكيك أو حتى للنقاش. على المغربي أن يتجنّب المغربي في أوروبا إن أراد أن يصل إلى أهدافه، وأن ينجح في حياته وأن يصيرَ مهاجرًا نموذجيًّا يتزوّج بلجيكية، أو هولندية، أو ألمانية، أو أوكرانية هاربة هي الأخرى من الحرب. أن يلد طفلًا أو طفلة تمتزج فيه أو فيها، توابل الشرق وسمرته بمعجناتِ الغرب وبياضه. أن يقود سيارةً واضعًا على عينيه نظارة رايبن وأن يدفع أمام زوجته الشقراء عربةَ المشترياتِ الضخمة داخل متجر ليدل أو آلدي، ثم أن يسافر رفقة أسرته الصغيرة هذه صيفًا في اتجاهِ مدينته النائية في المغرب مرتديًا الشورت فقط للاستمتاعِ بشواطئ المحيط الأطلسي الفسيحة أو شواطئ البحر الأبيض المتوسّط الصافية والدافئة.
رغم ذلك لم أستطع حتى الآن استساغةَ شيء كهذا، بل كلّما نصحني مغربي هذه النصيحة الغريبة: أن أبتعد عن المغاربة كما يبتعد الأصحاء عن مصابين بالجرب أو الجدري... فكرت مباشرة في التالي: يجب أن أبتعدَ عنك أنت أولًا، فأنتَ الذي تنصحني بالابتعاد عن المغاربة مغربي كذلك. أفكّر في ذلك بيني وبين نفسي فقط، وعوض أن أصارحه بذلك، أمجّ سيجارتي بعمقٍ مأساوي وأحدّق بعيدًا في الغيوم. أفكر أنّها ستُمطر كالعادة بعد دقائق معدودات. ستمطر ككلِّ يوم. ستمطر بغزارةٍ من دون توقف..
العتاب يكون على قدر الحب، بل الكراهية نفسها تكون أكبر كلّما كان الحبّ أكبر
سؤالُ ذلك الرجل السوري للرجل الفلسطيني ظلّ يرن في أذني طيلة هذا اليوم. تمشينا معًا بعيدًا عن الطابورِ في اتجاه محطةِ الميترو ودخّنّا سيجارة. قال لي بالحرف: تفو على أوطاننا. حاولتُ أن أكونَ إيجابيًّا أكثر منه. يحدث معي ذلك كلّما كانَ المحاورُ متشائمًا وسلبيًّا أكثر، على العكس من ذلك أتطرّف في اليأس حين يكون المحاورُ مُفرطًا في الأمل. سألته وهو ينفث بعمقٍ تراجيدي دخان سيجارته:
-أنت حديث العهد بأوروبا؟
-نعم.
-ما زال الناس يغادرون سورية؟
-غادرتها منذ سنة 2012. عشتُ في بيروت ثم العراق ثم إيران..
قاطعته: إيران؟
-نعم. ثم تركيا، ثم اليونان، ثم.. البقية.. أنت تعرفها.. وصلت قبل يومين وأمس طلبتُ اللجوء.
نفثتُ الدخان من دون أن أعلّق ومن دون أن أنظر إليه، ثمّ نظرتُ إليه وتبادلنا ابتسامة ذات معنى تصعب كتابته. لحيته مخضبة بشيبٍ مبكّرٍ. نحيف لكنه مستقيم. يرتدي جاكيتًا جلديًّا أنيقًا وسروالًا رياضيًّا وحذاء رياضيًّا، على كتفيه حقيبة ظهر، يبدو بوضوح أنّه مستعد ومترقّب لجولاتٍ أخرى لولبية وطويلة من الصراعِ من أجل البقاء.
أضاف: زوجتي وأطفالي ما زالوا في لبنان.. أتعرف؟
-نعم؟
-إن قبلت الصومال أن تمنحني لجوءًا فسآخذه. كل الدول اليوم أفضل من سورية..
كان يجب أن أنزل لأنتظرَ الميترو بينما فضّل هو الترام. وأنا أبتعدُ نازلًا في عتمةِ نفقِ الميترو خمّنت: لا يمكن أن نقولَ شيئًا كهذا عن بلداننا التي هجرناها إلا حين نكون نحبّها أكثر من كلّ بلدانِ العالم. العتاب يكون على قدر الحب، بل الكراهية نفسها تكون أكبر كلّما كان الحبّ أكبر. إنّنا شعوب لم تعد تعرف الفرق بين الحب والكراهية، سوى أنّ الاغتراب لحسن الحظ، مع الوقت، ينسيك الكراهية، كما ينسيك الحب أيضًا.