أولئك الذين يحبون الحياة سرّاً
الذين يدهشونني أكثر، هم أولئك الذين يحبون الحياة في السرّ أكثر مما نحبها نحن، ويعرفون قيمتها ولذتها في أبسط الأشياء، وليس أعقدها، كأطفال تكفيهم حلوى صغيرة وتسعدهم. هؤلاء الأشخاص السرّيون الذين أتحدث عنهم هنا، هم صانعو الأشياء من لا شيء، أولئك المولعون بتأثيث فضاءاتهم الصغيرة بأيديهم.
تجد الواحد منهم منهمكاً دائماً في صناعة شيء داخل بيته: طاولة، أو كرسي، أو أصيص، أو يصبغ جداراً، أو يزرع نبتة، أو يصلح مذياعاً معطلاً... بيوتهم مختلفة جذرياً عن بيوتنا، إنها نوع من القطع الفنية أو المتاحف الصغيرة الخاصة بأرواحهم، وليس بمعارض الفن ومتاحفه. كلّ شيء هنا منتقى بعناية، ابتداء من الصباغة إلى خشب الأبواب والنوافذ، إلى المصابيح والأكسسوارات الصغيرة فوق الموائد وداخل الخزانات والفترينات. يعقدون علاقة حميمية وشديدة الخصوصية مع الأشياء والتفاصيل والطبيعة. يحاضرون أيضاً ببساطة ووضوح في فن الطبخ وملاءمة الأطعمة لتناغم الجسد مع الأرض دون مجمدات أو معلبات، ودون مواد حافظة. مطابخهم تشبه مصحات الأعشاب المريحة للنفس قبل المعدة، وملاعقهم من الخشب الخالص والطاقة الدائمة، هم طاقة من الحنو والحب والرقة. غالباً ما يقضون صبيحة الأحد في حديقة المنزل الصغيرة، أو حول أصص نباتات خضراء مزهرة وذات فوح. يجزون العشب الضار ويسمدون التراب ويسقون البتلات ويشمّون الورود.
لا تخلو بيوتهم أيضاً من ساعة قديمة ذات نواس، ومن قطة أو كلب أو سلحفاة. أما العصافير، فهي فرض عين في عقيدتهم، وليست فرض كفاية. القفص صغير وداخله عصفور واحد، إلا أنه سعيد ويغرّد باستمرار. سعيد ليس بالقفص بل بالرفقة، وبطاقة الحنو التي تأتيه من الشخص، وهو ينفخ أمامه على معلفة الزؤان، مطيّراً القشور الفارغة في الهواء من أجل استبدالها بزؤان طازج ولذيذ. يربون العصافير بكلّ أشكالها وألوانها، ويحلمون بها داخل مناماتهم، ترفرف وتغرد. القطة نائمة على الكنبة والشمس مقتحمة البيت من النوافذ بكلّ قوتها وعنفوانها، بينما الواحد منهم مقرفص في حديقته، متأملاً قطعة خشب، مخمنّاً لماذا قد تصلح.
منعزلون في الغالب، ليس لأنهم غير اجتماعيين، بل لأنّ مشاغلهم كثيرة وأشياءهم الخاصة متعدّدة، وبلا نهاية
يحبون صيد السمك أيضاً في أنهار بعيدة، والنزهة في الغابات وزيارة القرى وأسواق الأنتيكا بانتظام. أنيقون دائماً، ثيابهم ملونة ومتناسقة في احتفال باذخ وبسيط وسرّي بالحياة، رغم أنها غير جديدة وغير باهظة الثمن. يعقدون علاقة مع درابزين الأدراج، كما بمكواة قديمة، كما بغار نمل في نهاية الحديقة. منعزلون في الغالب، ليس لأنهم غير اجتماعيين، بل لأنّ مشاغلهم كثيرة وأشياءهم الخاصة متعدّدة، وبلا نهاية، فعالمهم خالٍ من أيّ وقت فائض أو مساحة للضجيج. إنهم بسطاء دائماً وغير ثرثارين.
حين تدخل بيوتهم تشعر بأنك دخلت مكاناً مختلفاً، شديد الحميمية والخصوصية، مليئاً بالمعروضات والصور في إطارات لأموات وأحياء تعتقل الماضي والزمن برفق ومودة. الرفوف مليئة بالأكسسوارات التي تعني لهم الكثير، شمعدانات ولمبات وتماثيل صغيرة وأرابيسك ومنمنمات وألعاب أطفال ومصنوعات ومشغولات يدوية يصعب تعريفها أو فهمها إلا في سياقها الخاص. حتى الستائر لا تفتقد إلى المعنى، بل تتحرّك بوضوح في نسمات زمن قديم. تشعر كما لو أنك دخلت إلى أعماقهم، تتجوّل داخلها وتحتسي القهوة في حنوها، وليس داخل بيت من الأسمنت والخرسانة والحديد والزجاج العدائي. إنهم فنانون مجهولون دون شك، ولديهم الكثير ليقولوه عن أشيائهم البسيطة، إلا أنهم لا يجدون أحداً يسمع، فيصمتون منكفئين داخل عوالمهم المتحفية الخاصة، والبعيدة في الظلّ كما تحت المطر الخفيف أيضاً.
استنفذوا الحياة بشكل كامل وحميمي، بينما العالم في الخارج يواصل ركضه العبثي وحروبه ومكائده
هم مولعون بالموسيقى القديمة والغرامافونات والأسطوانات الكبيرة، كما بماكينات الحلاقة أيضاً، وبالمرايا. وسيمون بخفوت، وحين يتقدم بهم السن تشتعل فوق رؤوسهم طاقة أبدية من الشيب ذي الالتماعات المستمرة في الزمن. يظلّون شباناً حتى وهم عجزة، وغالباً، بل دائماً، تجد داخل صالوناتهم آلة موسيقية، عوداً على الأرجح، أو قانوناً، أو ناياً قصبياً على الأقل. يدندنون في وحدتهم ويغنون بأصوات شجية غير مبهرة كأصوات الملحنين، ولا أحد يسمع لهم باستثناء التحف والأكسسوارات والقطط والسلاحف ونباتات الأصص والعصفور الصغير في القفص، وربما جارة مسنة وعزباء. العصفور يألف مع الوقت صاحبه الفنان وأنغامه أكثر مما يحن إلى الغابة، يترك له باب القفص مفتوحاً فيخرج منه، يطير داخل فضاء البيت، يحطّ فوق التحف والتماثيل وفوق الغرامافون، وفوق العود، وفوق ركبة صاحبه ورأسه. يأكل من يده ومن فمه ومن أنفه، ثم يعود إلى قفصه الذي لا يبقى قفصاً بل بيتاً. يطير قليلاً في الحديقة ثم يعود مرتعباً من السماء، ومن المجهول، بينما الفنان السرّي، وقد تجاوز الستين، يجلس في الداخل ببذلته الأنيقة، مداعباً أوتار عوده، ومغنياً أغنية لفريد الأطرش أو للمعطي بن قاسم، فيما رائحة القهوة داخل عصارة عتيقة فوق الموقد تشيع في أرجاء البيت البسيط المرتب والأنيق، وفي أرجاء العالم في الصباح الباكر كشبهة الحب. إنهم وحيدون في الغالب، حتى وهم متزوجون ولهم أطفال. كنبتهم المفضلة هزازة، ومن القصب، وتبغهم يدوي. لقد استنفدوا الحياة بشكل كامل وحميمي، بينما العالم في الخارج يواصل ركضه العبثي وحروبه ومكائده. يعجّزون ببطء ويشيخون بهدوء، ورغم ذلك تظلّ قاماتهم منتصبة ووجوههم حليقة وثيابهم ملونة ومعطرة. وحين يمرضون تمرض أشياؤهم أيضاً، تمرض الأكسسوارات والتحف وإطارات الصور والخشب الذي شاخ أيضاً والقطة العجوز والعصفور الأرمل. يمرض البيت وتمرض الحديقة. وككل الموتى القدامى، تستعد أشياؤهم للذهاب معهم إلى العوالم الأخرى، حيث الأشياء هنا ليست أشياء فقط، بل هي جزء من أرواحهم وأعضائهم وأنفاسهم وذكرياتهم ورعشات أيديهم. يموتون فيموت كلّ شيء معهم. العصفور أيضاً يموت والأثاث يموت والشمعدانات تموت. كل شيء يموت معهم، باستثناء ضوء النهار الذي يدخل حيّا من النوافذ، وقوياً كالعادة، وباستثناء الموسيقى الشجية التي تظل تأتي من الغرامافون ومن العود الصامت، وأيضاً، وبالتأكيد، باستثناء أزهار الحديقة التي تظل متفتحة وفواحة بأرواحهم.