أجسامُ الشهداء لا تنبتُ ورداً في غزّة

11 سبتمبر 2024
+ الخط -

طفلٌ مشوّه الملامح، فارغُ الرأس، مبعثّر الأشلاء، أحيانًا مقطوعة رقبته، ومبتورة عنقه، وأحيانًا موجودة لكن لا فرق، الكلُّ لن يفيد شيئًا وقد فارق الصبي الحياة. تتأججُ النيران في نظرِ المشاهد، ويشتعلُ الثأر في صدور الرائين، وهم عاجزون عن الحركةِ في أيِّ اتجاه، لكن لعلّ منهم من يجد الوجهة ذات صباح، فيستل سلاحه، ويجد السبيل إلى القدس أو غزّة، وتصبح "إسرائيل" على حدثٍ أمني صعب عند حاجزٍ عسكري، أو في مخيّم مقاوم، أو بمدينةٍ حرّةٍ مُحتلة، أو على أحد نقاط الحدود التي يظنّ الاحتلال أنّها بمأمنٍ عندها، وقد أحكم عمّاله السيطرة على ما خلفها، لكنّها تفاجئه.

وبدلًا من أن يُفاجأ العدو نُفاجأ نحن في الصباح التالي، بعد ساعاتٍ قليلة من المذبحة بمعنى الكلمة، بعد تلك الرؤوس المنحورة بشظايا الصواريخ ألفية الأرطال، المُلقاة فوق رؤوسِ الصغار والآمنين في البيوتِ الهشّة والخيام الورقية، بأنّ "الفنانين" قاموا بعمليّة نوعيّة، وأطفؤوا في النفوس جذوةَ الانتقامِ والغضب، وخفّفوا على العالم صورةِ المأساة الحقيقيّة، وبدلًا من انتشار صور الأطفال المروّعة، التي يجب ترميزها للدلالة على وحشيّة المحتل وإجرام الأسلحة المُستوردة الفتاكة، وبراءة "أهدافه" من المزاعم الكاذبة، تبدأ صور أخرى في الانتشار، لرسوماتٍ ساذجة، لا أشكّك بنيّة أصحابها، لكني أعيبُ على عقولهم، حين يرسمون أعناق الشهداء وقد أنبتتْ ورودًا! فعلًا؟ بهذه البساطة تحوّلت تلك الحكايات والأجسام والأرواح إلى نبتات؟

رسومات ساذجة.. تحوّل المجزرة إلى مسخرة، والمحرقة إلى لوحةٍ فنية بالفحم، والتقطيع بالرصاص إلى تطبيعٍ بالرصاص.

مشكلةُ هذه الرسمات "الساذجة" أنّها تحوّل المأساة إلى قِصّة حلوة، إلى رومانسيّة زائفة، تحوّل ذلك الرعب إلى شيءٍ جميل، تحوّل اللحظات الأخيرة التي عاشتها تلك الطفلة بينما يسقط الصاروخ فوق رأسها وتنسحق، إلى عمليّةٍ مُستأنسةٍ مألوفةٍ، وبسيطةٍ، حيث تتحوّل الأشلاء إلى براعم، والأوصال المقطوعة إلى باقاتِ أزهار، وتُحوّل المجرم الذي قصفهم إلى مُزارعٍ وديع، يقطف رؤوس الصغار ويبدلهم ببساتين لطيفة من خيال، ويفرح العالم بتلك الصور منزوعة الحدّة والحقيقة، فيشاركها المشاركون -بحسن نيّة- على أوسع نطاقٍ، ولا يضيرُ الاحتلال الذي قتلهم لو أغرقت تلك الصور كلّ الأماكن وعلقت على جدران وزاراته حتى، فلا بأس.. حين يحوّل البشر إلى أشجار.

ولا حجّة لمن يقول إنّ ذلك لتخطّي خوارزميات مواقع التواصل، لأنّ مثل هذه الصور يُنشر ولو كان قاسيًا، وعهدنا معه أحد عشر شهرًا من الحرب التي لا يُنسى لها مشهد مهما بلغت قسوته، ولو حُجِبَ نشره وحُوصر، فإنّه يصل إلى غايته قبل أن يُمحى أو يقلّ وصوله، وحتى بعيدًا عن وجهاتِ نظر المتخصّصين في ذلك، فإنّ حجّتك تلك تدفعك إلى رسمِ المشهد نفسه على بشاعته لتخطّي الحجب على الصور، وترميز الصورة البشعة أكثر في ذاكرة الناس، لكنك بدلًا من ذلك تحوّل المجزرة إلى مسخرة، والمحرقة إلى لوحةٍ فنيّةٍ بالفحم، والتقطيع بالرصاص إلى تطبيعٍ بالرصاص!