أبو صالح وطلقة مسدس في زنده

28 سبتمبر 2022
+ الخط -

توقف صديقي أبو صالح المقيم في إدلب عن الاتصال بي مدة لا تقل عن شهر، ساورني شيء من القلق عليه، فكتبت له، على الواتساب: هل أنت بخير؟

أجاب: نعم. اطمئن. قريباً أكلمك.

وعندما اتصل بي، بعد أيام، أخبرني أنه أصيب بطلق ناري بسيط، أثناء احتفال جيرانه بنجاح ابنهم "أمجد" في الثانوية العامة، الفرع الأدبي.

- رويدك يا أبو صالح.. أنا أعرف أنك كنت، في مطلع شبابك، مولعاً بحضور الأعراس والاحتفالات.. ثم أقلعت، أو لنقل إنك تبت.

- نعم تبت. فذات مرة، كنت منسجماً بالدبكة في أحد الأعراس في الحارة الشرقية، وأنا أحب بشكل خاص أغنية (ع الطير عيني ع الطير، أهلا ويا صباح الخير)، وكنت أدبك عليها بشكل رائع، وأثناء ذلك أطلق أحد الحاضرين النار في الهواء، وبعد قليل سمعت أصوات جلبة وولاويل، فتوقفت عن الدبكة، وركضت مع الراكضين إلى الزقاق، وتبين لي أن امرأة كانت جالسة على سطح منزل مجاور لمكان العرس وهي تزغرد، فأصيبت وهي في منتصف الزغرودة، وحملها بعض الجيران إلى المستشفى، وقبل أن يصلوا بها إلى المستشفى فارقت الحياة، وقد شكلت لدي تلك الحادثة رد فعل قوياً، وأقسمت ألا أحضر عرساً، أو أي احتفال فيه إطلاق نار، مهما كلف الأمر..

- طيب. فما الذي استجد حتى حضرتَ مناسبة نجاح، وأُصبت؟

- أنا يا أبو مرداس لم أكن أعلم بصدور نتائج الثانوية العامة في ذلك اليوم. خرجت من البيت، أريد الذهاب إلى السوق لأقضي بعض الأعمال، ففوجئت بجيراني، بيت "أبو أمجد التلتوني" يستعدون للاحتفال بنجاح ابنهم.. كانوا قد صفوا الكراسي، ورشرشوا الماء على الأرض، وبعد قليل وصل الطبال خلُّو، والزمار حمودة، وبدأ الضرب على الطبل والترغلة بالمزمار، والناس صاروا يتجمعون بالتدريج، وعندما رآني أبو أمجد خارجاً من داري، هجم علي وعانقني وقال: باركْ لي يا جاري، أمجد نجح.

ثم سحبني من يدي، مثل الخروف الذي يُسحب إلى المسلخ، وأجلسني حيث يجلس إخوتُه وأقاربه وبعض الجيران وهم يصفقون بمرح، وعندما تذرعت بمشاغلي، واستأذنت للمغادرة، زعل أبو أمجد زعلاً شديداً، وقال لي: لا يا جاري أبو صالح، لم أتوقع هذا منك. أنا والله العظيم أعتبر ابنك صالح بسعر أبنائي. فهل يعقل أنك لم تفرح لنجاح ابني أمجد؟

من الطرائف التي انتشرت خلال السنوات الماضية، أن الطيران السوري اختصاصُه أفران ومستشفيات، وأما الطيران الروسي فمولع بقصف المدارس!

بيني وبينك يا أبو مرداس؟ أنا نجاح أمجد وسقوطه على قفا كندرتي. ومع ذلك رضخت. وجلست وأنا أدعو الله أن يمضيها على خير.

- طيب أبو صالح، ممكن توصلني إلى الزبدة، وتحكي لي كيف أصبت؟

- حاضر. يا سيدي، بعدما اتسعت دائرة الحاضرين، وبدأ الرقص العربي، وضع المطرب "أبو رداد الطشّي" كفه على أذنه، وصاح بيت عتابا ركيكاً، يبدو أنه ألفه خصيصاً لهذه المناسبة. قال:
يا رايح ع الحصادْ، تريدْ ترجَدْ
وتركب كديشاً، جْلَالو منجَّدْ  
روح خدلك شهادة، وصير عن جَدْ
متل هـ البطل المغوار أمجاااادْ

وبلمح البصر؛ اخترقت طبلتي أذنيَّ أصواتُ طلقات قوية، رأيت إحداها تضرب بحافة السطح فتقتلع منه كتلة إسمنتية، وشعرت وكأن سيخاً من النار يكوي ساعدي الأيسر، فوق المرفق، وأدركت أنني أصبت، التفتُّ إلى ساعدي، فرأيت الدم ينفر منه، صحت: آخ يا أمي، ابنك انقتل!

وغبت عن الوعي، وصرت أسمع أصواتاً متداخلة لرجال يبدو أنهم حملوني، ووضعوني في الصندوق الخلفي لسيارة بيك آب (وانيت)، وعندما استيقظت وجدت نفسي في مشفى الهلال الأحمر بإدلب، وذراعي مضمد، وكان يوجد بجواري طبيب ذو وجه بسام. قال لي: حظك كبير يا أخ أبو صالح. الرصاصة لم تستقر في الذراع، وعلى العموم إصابتك بسيطة. لا تخف.

وأنا بصراحة لم أخف، ولكنني زعلت من نفسي لأنني نقضت توبتي واستجبت لدعوة جاري أبو أمجد، وحضرت تلك المهزلة.

- الحمد لله على سلامتك أبو صالح. وبمناسبة إصابتك في احتفال شاب حاصل على الشهادة الثانوية، وبما أنني غادرت البلد منذ 2012، هل بإمكانك أن تحدثني عن واقع التعليم في شمال سورية الآن؟

- أحدثك عنه مطولاً، ولكنني أنصحك بألا تأتي على ذكره في مدونتك "إمتاع ومؤانسة،" لأنك معتاد أن تنشر فيها أشياء طريفة، وفي بعض الأحيان أشياء مضحكة، وأما واقعنا التعليمي فهو يُبكي الحجر الأصم.. أنت تعلم، بالطبع، أن نظام الأسد قابَلَ الثورة السورية التي بدأت في ربيع 2011، بعنف منقطع النظير، وقد ساعده الإيرانيون، والروس، وبعض الميليشيات الإرهابية، في حربه الشاملة على الشعب. هذه الحرب الطاحنة التي شاركت فيها ميليشيات مضادة، أدت إلى تدمير بيوت، ومدارس، ومدن، وبلدات، وقرى، وأصبح سوريون كثيرون من سكان المخيمات، وخرج، من ثم، عددٌ كبير من البنات والشبان من العملية التعليمية.

- أعرف هذا بالطبع، ومن الطرائف التي انتشرت خلال السنوات الماضية، أن الطيران السوري اختصاصُه أفران ومستشفيات، وأما الطيران الروسي فمولع بقصف المدارس!

- عظيم. نأتي الآن إلى الجانب الطريف من الحديث. وهو أن الاحتفال بالنجاح لم يقتصر على جاري أمجد الذي أصبتُ في ذراعي بسببه، بل شمل الناجحين في الإعدادية (البروفيه)، والثانوية العامة (البكالوريا)، ليس عندنا فقط، بل وفي مناطق النظام طبعاً. وكما هي العادة؛ تفاوتت ردودُ أفعال الطلاب وأهاليهم حول النتائج، فمنهم من فرح وابتهج، وأطلق النار في الهواء على طريقة أبو أمجد، ومنهم من احتفل داخل بيته، ورقص ذووه على أنغام أغنية عبد الحليم حافظ "وحياة قلبي وأفراحه"، ومنهم من خاب أمله، وغص، وبكى.. وهنا يمكنني أن أحكي لك حادثة ظريفة قبل أن ننهي المكالمة.

- تفضل.

- كتبت إحدى الناجحات، على صفحتها، أن مجموعها جيد، ولكنه لا يؤهلها لدخول كلية الطب البشري مثلما كان متوقعاً، لذلك، وفور صدور النتائج، حملت والدتُها الشحاطة البلاستيكية ذات الإصبع، ولحقت بها وهي تحلف أنها ستضربها على شفاتيرها (شفتيها)، بسبب هذا المجموع المخجل، وهي من خوفها، أقفلت على نفسها الباب من الداخل، وجلست تمرر الوقت عسى أن تيأس والدتُها وتبتعد عن الباب، ولكنها لم تيأس، فتوكلت على الله وخرجت، وسمحت لها أن تضربها على شفاتيرها، حتى لا يقع عليها إثم اليمين!

(للحديث شجون أخرى)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...