"وكأن الجنة وقعت في حب جنين ومخيم جنين"

07 سبتمبر 2022
+ الخط -

الاحتلال يتأهب، الاحتلال يستنفر، الاحتلال يتوعد، الاحتلال يقتل، الاحتلال يعتقل، هذه بعض من عناوين أخبار المحتل الجبان منذ نحو قرن عقب كل عملية فدائية تهزّ أركانه المهتزة. يريد أن يستعرض قوة لا يملكها، ولا أقصد هنا القوة العسكرية، فلا شك في أن كياناً تموله الإمبريالية يمتلك أحدث وأشد أنواع الأسلحة فتكاً ليستهدف بها العزَّل علاوة على الأسلحة المحرمة دولياً التي تموله بها بعض من الدول التي حرمتها! على كلٍّ، هذا موضوع يطول. ما أقصده اليوم بالقوة، تلك التي تعتري النفس، وهذه ما يفتقدها منذ أن اغتصب بلادي حتى اللحظة، فهو يخشى حجر طفل، وبيده بندقية، ويخشى زغرودة أم الشهيد، وبيده رشاش، ويخشى الكلمة، وبيده إعلام الإمبريالية.

فما بالكم إن كان أمامه مقاوم تعتري نفسه قوة لا تهزها ترسانة المحتل العسكرية بأكملها ولا يأبه لقطعان جنوده ومستوطنيه ولا دباباته وقنابله وغاراته، ولكم أن تتخيلوا حال المحتل الجبان حين يصطدم مع ملثمي المقاومة. فهو يرسل جنوده وقواته الخاصة ومخبريه وأسلحته الفتاكة ليقتحم عشّ الدبابير والبلدة القديمة في جبل النار وكل بقعة في الضفة التي يحتلها وحتى الكلاب يفلتهم كما الجنود، ورغم كل هذا يتملكه الرعب الذي يجعله يخشى على كيانه من الشهداء حتى بعد ارتقائهم ليلاحق جثامينهم الطاهرة!

ووسط ذلك، يباغته مقاومون آخرون في شارع 90 المحصن أمنياً، حيث ذهبوا ليكملوا مسيرة من سبقوهم ويعبّدوا الطريق لمن سيلتحقون بركبهم، فيفاجئونه بإطلاق الرصاص على حافلة تقلّ جنوده في أرض غور الأردن التي يحتلها ويتحكم بزمام أمورها، وبأول طلقة صوّبها نحو الحافلة بطلان من جنين، محمد ووليد، حاصرته العمليات الفدائية التي مرت كالشريط أمامه وبالطلقة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة استيقظ من وهم دولة مزعومة ليجد جنوده يتساقطون في إصاباتهم برصاص المقاومين.

فجأة، دوى رصاص المقاومين الذين اشتبكوا معه لساعات

وهنا سارع المحتل ليحفظ تاريخ العملية ليضيفها إلى الورقة حين يذهب يتباكى أمام داعميه، الذي صادف الرابع من أيلول، أي قبل يوم واحد فقط من عملية ميونخ التي أحيا ذكراها محمد ووليد على طريقتهما الخاصة، ليحتفيا بتلك العملية البطولية التي أسقط بها المقاومون في أيلول ذاته قبل خمسين عاماً أكثر من عشرة صهاينة حين حاصرهم المقاومون في ميونخ تحديداً بالقرية الأولمبية، والتي على إثرها استشهد خمسة من المقاومين الذين لحق بركبهم الآلاف منذ ذاك الوقت الذي كان يظن فيه المحتل أنه سيقوى على المقاومة ويخمدها في الأعوام القادمة.

المحتل جلس في الزاوية المظلمة وأخذ يتساءل من أين يأتي الفلسطينيون، لقد قتلت الآلاف منهم وفكرت وحبكتُ خططاً ورسمت خرائط واستعنت بالدول العظمى الذين مولوني بالمليارات لأغتال رموز مقاومتهم منذ أن اغتصبت أرضهم قبل نحو سبعة عقود، فقد هدرت دمهم واعتقلت جثامينهم حتى أطفالهم قتلتهم، فما الذي يحدث كل يوم؟ أقول إنهم استسلموا وانتهوا ليفاجئوني هم ذاتهم رغم اختلاف الوجوه من نحو قرن إلى اليوم هم ذاتهم! هل يستيقظون أم ماذا! ليردّ عليه مقاومون آخرون بنصب كمين لجنوده حيث ألقوا عليهم قنبلة يدوية الصنع في رام اللّه وأصابوا أربعة منهم، وسرعان ما لحقتها عشرات الأعمال المقاومة في الضفة المحتلة.

وهنا انتظر عتمة الليل حتى اشتدت، فأرسل بقواته الخاصة إلى جنين ليؤمنوا له الطريق، ثم نشر جنوده وقناصيه، واختار تلك الساعات لأنه يخشى اقتحامها نهاراً، رغم امتلاكه كل أسلحة العالم، فهو يخشى أسلحتهم البسيطة، وكان يقول إن المقاومين قد ناموا، وسأرتكب جرائمي وسأقتل من أشاء، وفجأة، دوى رصاص المقاومين الذين اشتبكوا معه لساعات، وكما اعتاد الغدر دوماً جعل جنوده يختبئون ليصيبوا البطل طاهر زكارنة برصاصة في رأسه ليرتقي على إثرها شهيداً.

وفي اليوم التالي رصد المقاومون ذاتهم حين كانوا يشيعون جثمان الشهيد ونادى جنوده وأمنه وموساده واستخباراته، قائلاً إنهم هنا يستيقظون، فلتقتحموا عش الدبابير، فربما كان يختبأ الشهداء بين جدران منازلهم، عليكم برعد حازم اهدموا منزله.

وفوراً تسلل المحتل ودباباته وجنوده وقواته الخاصة الذين اصطدموا مع المقاومين حين وجدوهم مستيقظين، وبعد ساعات من الاشتباكات عجزوا، وكالمعتاد استخدموا العزل كدروع بشرية للاقتحام، فهدموا منزل رعد وأخذوا يبحثون عنه بين الركام، لكن لم يجدوه، وهنا دوى صوته وهو ينادي على رفاقه في المخيم الذين فارقهم منذ ارتقائه قبل خمسة أشهر.

فسمع محمد سباعنة الصوت، فرعد وحمزة وعبد اللّه وداوود ومحمد وأحمد ووليد وكل رفاقه الشهداء ينادونه، فاستجاب لهم في تلك اللحظة التي كان يقاوم بها العدو وهو يبث جرائمه، ليقرر إنهاء البث المباشر والصعود إليهم صامداً مبتسماً.

حتى في تشييع جثمانه لم تفارق الابتسامة محيّاه الجميل كما صورته التي قرر استبدالها على مواقع التواصل قبل ساعات من استشهاده ورأسه مرفوع، والكبرياء تزيّن ملامحه وهو يرتدي قميصاً أبيض اختاره ليلتقي رفاقه بتلك الطلة حيث ينتظرونه في الجنة التي كان يقصدها حين قال في وقتٍ سابقٍ عنها: "وكأن الجنة وقعت في حب جنين ومخيم جنين"، فاستمر يبادلها الحب حتى صعد إليها خاتماً حكايته بما نشره "شهداؤنا قناديل تنير لنا الطريق"، لنرد عليه بأن لا طريق لنا غير هذا الذي نتتبع به دمكم حيث نسلكه ليطهرنا حتى نصعد إليكم.

دلالات
هبة أبو طه .. فلسطين
هبة أبو طه
صحفية أردنية من أصول فلسطينية متخصّصة في مجال التحقيقات الإستقصائية ومدونة. تحلم بأن "تكتب لفلسطين بالدم" كما أوصى غسان كنفاني.