عن محاربة البضائع الإسرائيلية

16 ديسمبر 2014
+ الخط -
في مطلع التسعينيات، أي بعد ثلاث سنوات من عمر الانتفاضة الأولى، كنت وقتها طالباً في المرحلة الابتدائية. اختزلت ذاكرتي مشاهد كثيرة من الانتفاضة، والتي ترفض النزوح من ذاكرة الفلسطيني. ولا أعتقد أن سنوات عمري الاثنتين والثلاثين قد أفلحت في أن تقضم شيئاً من ذاكرتي، فكل مشاهد تلك الفترة، بقساوتها، ظلت على قيد الحياة في مدارك كثيرين.
مشهد لمجموعة من ناشطي الانتفاضة مقنّعون بالكوفية الفلسطينية، يحملون "سواطير" ويقتحمون بقالات المواطنين، ويصادرون منتوجات الاحتلال من على رفوفها. أذكر في أحد الأيام أن شيخاً كبيراً، كانت لديه بقالة صغيرة، تقع في إحدى أزقة قريتنا، راح، بعد أن علمَ مسبقاً، أن "نشطاء الانتفاضة"، يعتزمون القيام بحملة تفتيش عن المنتج الإسرائيلي، إلى إخلاء رفوف بقالته، عدا عن مرطبنات من اللبن، صُنع بيتي، وصابونة نابلسية.
أما المنتج الإسرائيلي، فما زالت أرباحه تُجبى لشراء رصاص تطلقه فوهات بنادق جنود الاحتلال، الذي كنا لا نَكَلُّ عن رجمه بالحجارة والزجاجات الفارغة. وكل محاولات محاربة المنتج الإسرائيلي لم تكن تُجدي نفعاً؛ لأن البديل لم يكن موجوداً.
قبل مدة، ليست بعيدة، سُيّرت حملات واسعة نظمها شباب فلسطينيون بمبادرات شخصية، ذات طابع حضاري، بهدف محاربة المنتوجات الإسرائيلية، وإقناع المواطنين والتجار بضرورة عدم شرائها، واستبدالها بالمنتج الفلسطيني. وقد تعاون الجميع مع هذه الحملات التي تعد أحد أساليب محاربة الاحتلال والنيل منه، في وقت يرتكب الأخير أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين. وقد لا يخفى على أحد أن النصيب الأكبر من ميزانية دولة الاحتلال يذهب إلى وزارة الحرب فيها، وهذا يعني أن الفلسطيني يساهم في شراء الرصاصة التي سوف يُقتل بها.
محاربة الاحتلال، اليوم، أبعد من فكرة إخلاء رفوف البقالات الفلسطينية، من دون التقليل من أهمية هذا التوجه الذي يصنف شكلا من أشكال النضال، في وقت تتفوق فيه موازين القوى، بين الإسرائيلي المدجج بأقوى أنواع السلاح والمسنود عالميا وعربياً، والفلسطيني البسيط والمخذول عربياً.
قد يكون من يُسر الأمر أن يُخلي الفلسطيني محله أو بيته من بضائع الاحتلال، وكم أتمنى أن يكون هذا نهجاً، وليس زوبعة في فنجان، كردة فعل على اعتداءات الاحتلال. لكن، ثمة أشياء أبعد من البضائع الإسرائيلية، قد لا يستطيع معها الفلسطيني البسيط أن يُنحّيها من على رفوف أو محاضر الاجتماعات في أروقة غرف "العمل السياسي"، بين رام الله وتل أبيب. فليس من الإنصاف الهروب من هذه الحقائق التي تُرجمت، يومياً في حياة الفلسطيني، منذ توقيع اتفاقية أوسلو.
حاولت السلطة الفلسطينية، في نهجها، إغراق العقل الجمعي الفلسطيني بضرورة التعايش مع الاحتلال، وتمثل ذلك في التنسيق الأمني، والاعتقالات السياسية، تحت يافطة فرض النظام. أنتجت لغة خطاب سياسي جديد في الشارع الفلسطيني، دعت الجميع إلى المناداة بالتعايش مع الاحتلال، وسُوِّقَ ذلك بيافطات عُلقت على مداخل مدن الضفة، "دولة ديمقراطية واحدة لشعبين".
A9601A51-0D13-4CEC-ACE3-1E0342201660
A9601A51-0D13-4CEC-ACE3-1E0342201660
تحسين ياسين (فلسطين)
تحسين ياسين (فلسطين)