في تجلياته الموسيقية والغنائية، جاء الحراك الاجتماعي والسياسي في مصر بعد ثورة يناير، التي تحلّ ذكراها الرابعة هذا الشهر، خاضعاً لمسارين تاريخيين: مسار الغناء الرسمي الذي تماشى مع خطاب الدولة، والمسار "الملتزم" الذي عارض هذا الخطاب، ومن أبرز وجوهه الشيخ إمام الذي شكّل امتداداً للحالة التي أسس لها سيّد درويش. غير أن فهم "الثورية" اقتصر في معظم الحالات على الكلمات لا الموسيقى.
فرق الـ"أندرغراوند"، مثلاً، التي حاولت أن تدوّن اللحظة وتعبّر عنها موسيقياً، تغنّت بالحرية بفجاجة لم يُكتب لتجربتها الاستمرار، فصعدت من جديد أغاني سيد درويش والشيخ إمام كمعبر ثوري أكثر جودة وأصالة. وبالتالي، لم يكتب للأغاني الجديدة الصمود، باستثناءات قليلة كأغنية "إزاي" لمحمد منير التي صادف أن تكون أقدم قليلاً من 25 يناير، لكنها كانت الأصدق تعبيراً عن تلك اللحظة.
وقعت الفرق المستقلة في أزمة عدم قدرتها على تثوير موسيقاها، فسعت إلى إعادة تدوير التراث وتقديم أغاني إمام وسيد درويش بتوزيع موسيقي جديد وطريقة غناء جديدة. ورغم نجاحها النسبي، إلا أنها ظلت حبيسة محدوديتها وعدم قدرتها على إنتاج جديد.
ومع استعادة الدولة سيطرتها على البلد، عادت أغانيها إلى الصعود، وإذا بمصر تستفيق على أغنية "تسلم الأيادي، تسلم يا جيش بلادي" لمصطفى كامل، التي قدّمت صورة هوياتيّة بأدوات دولة التسعينيّات، وارتمت في أحضان الجيش، مانحةً إيّاه تفويضاً مطلقاً. أما لحنها، فمقتبس من لحن "والله لسه بدري يا شهر الصيام". ورغم ركاكتها، حازت ما لم تحزه أغنية "وطنيّة" أخرى، قبل أن تأتي أغنية "بشرة خير"، قبيل الانتخابات الرئاسية، بصوت حسين الجسمي ولحن عمرو مصطفى، لتحتل مكانها، بلحنها الراقص.
دون الوقوع في كليشيه الرثاء لزمن ماض، لا يمكن مقارنة هذه الأغنية بأغنية "عدّى النهار" لعبد الحليم حافظ مثلاً. فالأخيرة هي بنت صنعة فنية محكمة، بينما لا يمكن النظر إلى "بشرة خير" إلا باعتبارها "باب انتشار" لصاحبيها، مثلها مثل عشرات الأغاني العاطفية المكررة والباهتة التي خلعت الحبيبة ووضعت مكانها مصر.
باختصار، وقعت أغاني الثورة في أزمة فقر المخيلة؛ لأن من تصدّى للتعبير الفني فيها بقي حبيس تصوّر مُسبق عن الفن الثوري ينتمي إلى لحظة تاريخية قديمة. لكن الصورة ليست قاتمة كلياً، فمن داخل هذا العبث الفني، خرجت أغنيات قد تصمد أمام اختبار الزمن، مثل "يا مصر هانت وبانت" و"منصورة يا مصر" لمصطفى سعيد.