180 يوماً من العُزلة
والموت قد يكون أعظم أشكال العزلة.
لكن.. قد تكون للعزلة معان أخرى، معان أكثر شمولا، أبعد، وأعمق.. قد تكون العزلة عالما رحبا، فضاء واسعا، وشغفا غامض الملامح. وهناك تبدو الحياة بمطلقها، الحرية بمطلقها، هناك يعيش الإنسان على سجيته، ويكون قويا بما يكفي ليمسك الهواء بين يديه، ويطلقه متى يشاء. هناك تتحرر الروح من أغلالها.
لحظة!
هناك؟
لكن لماذا أستخدم كلمة (هناك) للدلالة على العزلة؟
هناك تشير غالبا إلى جهة ما، وهذه الجهة عندما ترتبط بالعزلة فهي قطعا مكان.. ثمة بقعة جغرافية. لا يمكن الحديث عن العزلة دون الحديث عن الجغرافيا، عن المساحة، عن التضاريس، عن المسافة. حتى لو كان هذا المكان مجرد حجرة في منزل. وهذا هو التفسير الأكثر ملاءمة لكلمة هناك.
إذن.. فالعزلة ليست دائما سيئة، قد تكون العزلة أرضا لولادة جديدة، ولادة سهلة، دون مخاض، دون نزف. قد تكون ولادة من رحم التأملات، من وحي الأبدية، ومن نبض اللانهايات.
سأذهب اليوم مع هذا الرحالة الفرنسي إلى موطن عزلته المؤقت. في مئة وثمانون يوما على ضفاف بحيرة بايكال جنوب شرق سيبيريا، هناك حيث العالم يبدو متراميا شاسعا، يبدو كأنه جغرافيا أبدية لا تنتهي.
بحيرة بايكال، إحدى البحيرات العظمى، وهي الخزان الأكبر للمياه العذبة في العالم. تبدو كبحر صغير. وفي شتاء سيبيريا القارس، تبدو كمحيط متجمد صغير على ضفاف الدائرة القطبية الشمالية.
تسير الشاحنة الروسية الصنع على جليد البحيرة الزجاجية المترامي على مئات الكيلومترات.. طبقة الجليد السميك قادرة أن تحمل سيارة من دون أن تتكسر أو تشكو ثقل الحديد فوقها. ها هو الآن وحيدا، على ضفاف البحيرة المصفدة بالصمت البارد، تحيط به غابات سرو صبور على الزمن المتجمد.
*"هل سأجد هنا ما كنت أبحث عنه خلال العشرين سنة التي قضيتها في السفر مبررا للوجود في الحياة؟"
بعد هذا السفر الطويل، عبر الزمان والمكان. بعد كل ما خبرته نفسي من تجارب، وبعد أن لامست تراب هذه الأرض بلحم تلك السنوات العشرين الغابرات. هل سيشهد هذا المعتزل الثلجي الواسع ولادتي من جديد؟ وهل سأعرف نفسي كما لم أعرفها خلال عقدين من الترحال؟
*"أشعر وكأني أغوص في الفراغ. ما من طرقات، ما من جيران، هل سأتمكن من معرفة ما إذا كنت أملك روحا في داخلي؟"
ما من أحد هنا، لا أحد يتنفس في هذا البياض غيري. لا يتردد صوت العالم في هذا الفضاء الأرضي الفارغ. لا أسمع سوى صوت نفسي، ولا أتكلم إلا معها. ها أنا أعاكس فطرتي الإنسانية وأجنح للابتعاد. تاركا ضجيج الناس خلف ظهري. وهنا سأبحث عن روحي، سأبحث عنها إلى أن أجدها.
*"في الكوخ يستطيع الإنسان فعل ما يشاء. إيقاع ثابت لا يتغير"
لا بشر على ضفاف بايكال إلا أنا، ولا آثار بشرية إلا هذا الكوخ الخشبي الصغير الذي يحتويني ويحيطني بدفئه. في هذا الحيز الصغير من الدفء، ثمة ميادين واسعة، تتمادى في اتساعها وتبعثني في عوالم جديدة. عوالم حرة، ما فوق أرضية، ثمة ما يجعلني أصل النيرڤانا، ثمة ما يجعلني أعيش الحلم بكل تجلياته.
*"يقدم إلينا الخالق مقطعا من نص غامض"
في الليل توقظني أصوات غريبة، إنها تصدعات الجليد القادمة من أعماق البحيرة، إنها إشارة على اقتراب الربيع. من خلال هذه الأصوات المتمردة، أشعر بأنني أستمع لصوت الخالق، صوت الشمس المتنائية خلف غيوم سيبيريا الكثيفة. تعلمت ألا أنقش ذكرياتي على الجليد، فالجليد شهادة مصيرها النسيان.
*"السكون هو الصوت الذي يصدره الزمان أثناء عبوره"
جاء أيار، أستطيع الآن أن أرى السماء الفيروزية تعانق خيوط الشمس الدافئة التي امتدت على هذه الولادة الخضراء. تحررت المياه من سجنها أخيرا، أستمع الآن لصوت الموج، أستطيع أن أختزنه في ذاكرتي. صوت أمواج البحيرة كسر السكون الذي سيطر على الشتاء في الأيام السابقة، فهل أستطيع القول بأن الهدير قادر أن يوقف الزمان في لحظة ما؟
أبحث عن تفسير مقنع لكل هذه التحولات، وصلت إلى هنا مع بداية الشتاء، كان العالم أبيض من حولي، كان العالم عبارة عن مملكة للثلج. اليوم تتمرد عليه قوى هشة، تخرج من باطن الأرض، وانتصرت مملكة أخرى وسيطرت على المكان. الأرض مفعمة بالخضرة. وفي لحظة ما انهار العدم أمام الطاقة التي يضخها ربيع بايكال.
بعد هذه الرحلة، وبعد هذا الاغتراب الطويل على الضفاف النائية، ما زالت تلك الأسئلة تتقافز في أعماقي وتطرق أبوابي الموصدة.. إنه السؤال الأزلي الذي طرحه فلاسفة اليونان قديما من خلال تلك العبارة المنقوشة على جدار معبد دلفي "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" فهل استطعت من خلال رحلة التأملات هذه أن أعرف نفسي، أن أتعرف عليها كما لم أعرفها من قبل؟ وهل تلمست الحقيقة بروحي وقلبي وأدركتها كما لم أدركها بعقلي من قبل؟
سأترك نفسي معلقا على حبال الأسئلة، وأتركها تحوم في سماوات وجداني الشاهقة. سأتركها تبحر معي في هذا الزورق الصغير على مياه بايكال، لعلي أجد إجاباتها يوما ما..