مترو باريس
باريس مدينة قديمة، أشبه بمتحف عملاق، استطاع أن يحافظ على مقتنياته وأن يحميها من دمار الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن هنا تشكلت هوية باريس كوجهة سياحية أولى في العالم.. وكما هو معروف فكل هوية لها عناصر أو مكونات، وبالنسبة لباريس فإن مترو الأنفاق هو أحد التكوينات الرئيسية التي تتشكل منها هوية هذه المدينة الساحرة!
مشروع مترو باريس بدأ كفكرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر متزامنا مع الفكرة ذاتها في عدة عواصم أوروبية كبرى، كبرلين ولندن وغيرهما، وتم العمل به وافتتاحه مع إشراقة القرن العشرين، فكان ثورة حقيقية في مجال المواصلات.
ثمة أربعة عشر خط مترو أنفاق تسير تحت أرض العاصمة، منها ما هو قديم ومنها ما هو حديث، ومنها ما هو أكثر حداثة بحيث يتم تسييره بدون سائق..
لنبدأ بالمترو رقم واحد: عربات المترو واحد متصلة ببعضها وكأنها عربة واحدة وهي مفتوحة على بعضها، فإذا جلست في مؤخرة المترو تستطيع مشاهدة مقدمته بسهولة في غير وقت الازدحام، وأهم ما يميز المترو رقم واحد أنه يسير بلا سائق ويتم تسييره عن طريق التحكم عن بعد بأجهزة خاصة.
المترو رقم واحد هو تعبير واضح عن الحداثة والتقدم التكنولوجي وعبقرية التقنية، والمحطات التي يخدمها هي الأكثر رقيا وغنى في العاصمة، كجادة الشانزليزيه ومتحف اللوڤر وحدائق تويلري وساحة الكونكورد وبلدية باريس وغيرها.
أما بالنسبة للمترو رقم اثنين، فهذا يتمتع بطبيعة مختلفة، إذ إنه حديث ومزدحم ومتناقض، يخدم أماكن متنوعة ومتفاوتة في المستوى الاجتماعي والطبقي، وما يميزه أنه يخدم أكثر الأماكن السياحية زيارة في العاصمة (ككنيسة القلب المقدس)، وتقع عليه مناطق مثل (لا شابيل وباربيس روشوشوار)، حيث الأكثرية العربية الشمال أفريقية، وتليها مناطق يتكاثر فيها الهنود مثل (ستالينغراد)، وهكذا تجد أن محطات المترو تُعبِر عن روح العالم المتناقض والمتلون الذي يجتمع في هذه المدينة..
المترو رقم 14 هو أقصر الخطوط وأسرعها وأحدثها، هو كذلك بلا سائق، وهو سريع جدًا ومميز، ويخدم مناطق راقية متقاطعًا كذلك مع الخط رقم واحد..
تحدثتُ عن بعض الخطوط التي تتمتع بعربات حديثة، ولكن إذا أردنا أن نستكشف حقيقة مترو باريس علينا أن نذهب إلى الخطوط ذات العربات القديمة والتي صارت جزءًا من التراث الباريسي، وعلى رأسها المترو رقم 7.
عربات الخط رقم 7 قديمة، وتحدث أثناء سيرها ضجيجا شديدا، وكثيرا ما وصفته بأنه مجموعة ميكروباصات قديمة متصلة ببعضها، ورغم ذلك ثمة الكثير من روح العاصمة القديمة في هذه العربات.. المترو رقم 7 طويل، إذ إنه يقطع العاصمة من شمالها إلى جنوبها، فيبدأ بالضواحي القريبة وينتهي كذلك بالضواحي، مرورا بقلب العاصمة، وهذا ما يجعله متناقضا على نحو ما، لأن علاقة باريس بالضواحي ما زالت إلى الآن علاقة ملتبسة وقلقة رغم مناخ المساواة والعدالة الذي يخيم على هذا البلد..
ليس فقط الخط رقم 7، فهناك الخطوط التي تحمل رقم 8 و5 و6، وهذه كلها خطوط ذات عربات قديمة، قديمة ولكنها تعمل بجد، وتنقل الملايين من الركاب أسبوعيا.
في المترو تستمع إلى العازفين المتجولين، ظاهرة جميلة، لكن الفرنسيين على ما يبدو قد سئموا منها، لأنهم اعتادوا عليها وبسبب انشغالهم بحياتهم وأعمالهم بعيدًا عن جمال عاصمتهم..
في المترو تجد المتسولين كذلك، كان أغلبهم من دول أوروبا الشرقية، أما الآن فقد تدفق كثير من السوريين ممن يوصفون بالغجر إلى باريس ليمارسوا مهنتهم المعتادة والتي هي التسول، وهنا ألبسوا تسولهم ثوب المعاناة السورية، التي صارت مطية ركبها متسولون كثر وعلى عدة مستويات.
في المترو، تطالع التعب على وجوه ذابلة، يعلوها صمت باهت، لا يبدده إلا ضجيج العربات الذاهبة في ظلام النفق.. في المترو كثيرًا ما يصيبك الحزن، كثيرا ما تلفحك الغربة، ورغم الزحام، كثيرا ما تحاصرك العزلة، فهذا المكان كما هو مكون رئيسي لهوية هذه العاصمة الجميلة، هو أيضًا جزء من المنفى..
لا أدري! ثمة شيء ما يشبه لوحة زيتية لفان كوخ، شيء ما يشبه حزن فان كوخ، رغم أن فان كوخ مات قبل المترو، لكنه لو عاش وعرف المترو لعبر عنه في لوحاته.. في المترو كثيرًا ما تعيش مرارة السؤال في قصيدة نزار: ما الذي يمكن أن أفعلهُ من غير أم.. في محطاتِ الشتات؟