17 عامًا على "الثلاثاء الأسود": سينما الواقع

12 سبتمبر 2018
إرنست بورغناين في "11/ 9" لشون بن (فيسبوك)
+ الخط -
كان ذلك يوم ثلاثاء، سيُعرف لاحقًا باسم "الثلاثاء الأسود". التاسعة صباح 11 سبتمبر/ أيلول 2001 بتوقيت نيويورك، تتعرّض الولايات المتحدّة الأميركية لاعتداءٍ إرهابي، ستُكشف هويات مرتكبيه بعد وقت، وسيبدأ ذلك البلد رحلته الجديدة مع الحروب والموت والخراب والفوضى داخل ولاياته، وفي العالم. 

إسقاط برجي "المركز الدولي للتجارة" باصطدام مقصودٍ بطائرتين مدنيتين يخطفهما إرهابيون عرب، وهجوم انتحاري بطائرة مدنية ثالثة على مبنى "بنتاغون"، وتمكّن ركّاب الطائرة المدنية الرابعة من إسقاطها بعيدًا عن هدفها، إذْ سيعرفون أن حدثًا كبيرًا تجري وقائعه "الآن": مَشَاهد الساعات القليلة تلك ستُغيّر مجرى التاريخ، ومسارات دول ومجتمعات وأناس.

كان ذلك يوم ثلاثاء، قبل 17 عامًا. العالم يتغيّر بسبب انقلاب مدوٍّ تُحدثه اعتداءات "الثلاثاء الأسود". عودة الولايات المتحدّة الأميركية إلى العالم ترافقها، هذه المرّة، ارتباكات في الإدارة السياسية والقيادة العسكرية. حربا أفغانستان (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2001) والعراق (20 مارس/ آذار 2003)، نموذجٌ واضح للارتباكات، ولآثارها القاتلة في دول ومجتمعات وجماعات. في لحظة الاعتداء، يُذهَل العالم أمام هول الجريمة، ويُدهَش من كيفية تحويل طائرات مدنية إلى أدوات قتل جماعي.

نقاشٌ طويل ومتنوّع يُثيره الاعتداء الإرهابي، في السياسة والعمل الأمني ـ الاستخباراتي والاقتصاد والعلاقات الدولية. الفعل الثقافي حاضرٌ، والصحافة والإعلام يُكثّفان جهودهما لمتابعة وقائع الاعتداء وتداعياته، قبل أن ينصرفا إلى خلفياته، وإلى أسرار مخبّأة في كواليس الدولة وأجهزتها وملفاتها. للقوانين الصادرة حينها تأثيراتٌ خطرة، تُعيد طرح سؤال الهوية والمواطنة الأميركيتين.

السينما مصدومة، رغم أنها تسبق كثيرين في قول أنماطٍ شتى من الاعتداءات، وتطرح أشكالاً مختلفة لمواجهتها، وتتّهم حكومات ومؤسّسات وجماعات بصنعها. لكن لحظة الاعتداء وما تلاها من وقتٍ مرير تصدمان هوليوود وصناعتها. استديوهاتٍ عديدة (سينما وتلفزيون) تُوقِف إنتاجاتٍ لها يظهر فيها برجا "المركز الدولي للتجارة"، وإنْ يتمكّن التوليف من إزالتها، فالأعمال تُستكمل. مشاريع ـ بعضها الأول مُصوَّر كلّيًا وجاهزٌ للعرض، وبعضها الثاني مُصوَّر جزئيًا، وبعضها الثالث ينتظر ضوءًا أخضر لبدء التنفيذ ـ تتعطّل. المشهد مُثير لحيرة نابعة من تاريخٍ حافل لهوليوود في قراءة المقبل من الأيام، وفي تقديم أحداثه مسبقًا. إذْ كيف يُمكن لمن يستبق الحدث أن يُصدَم بوقوعه؟ كيف يُمكن لقائل بمستقبلٍ أن يعجز عن استيعاب المستقبل لحظة وقوعه؟ كيف يُمكن لـ"إمبراطورية" هوليوود، التي تغزو بلدانًا كثيرة منذ زمن بعيد، أن تصمت صمتًا مخيفًا، وإنْ تكن مدّة الصمت قليلة؟

الاعتداء إرهابيّ بامتياز. قتل مئات المدنيين في دقائق قليلة أصعب من استيعابه، وأقسى من توقّعه وإنْ تبرَع الصُور في ابتكار أشكال مختلفة له وعنه قبل حدوثه. سقوط البرجين، والغبار الذي يُغطّي شوارع وفضاءات وأفرادًا، وصراخ مدنيين ناجين، لقطات يصعب التأقلم معها سريعًا. لكن هوليوود تبدو، حينها، أكثر انضباطًا وأقدر على الإمساك بزمام أمورها وأقوى على مواجهة الجريمة، إذْ تتمكّن ـ في أشهرٍ قليلة ـ من استعادة نفوذها، والخروج من ألمها، وتضميد جروحها. فهي صانعة المشهد، تُدرك شيئًا كثيرًا من خفاياه، وتعرف "أشراره" فتميّزهم عن الآخرين. والأشرار بالنسبة إليها كثيرون: سكّان أصليون تبيدهم على الشاشتين الكبيرة والصغيرة (بعد إبادتهم في الواقع في سنين مديدة)؛ أعراق بشرية تراها أدنى قيمة منها؛ أصوليون متنوّعون، وبعضهم أميركي صافٍ يُريد خلاصًا من الوافدين، كأنه هو أصيل؛ كائنات فضائية؛ كوارث طبيعية؛ حيوانات منقرضة تحييهم من أجل علم ومعرفة أو من أجل سياحة وتجارة فتنقلب عليها وعلى بلدها، ما يستدعي فعلاً جُرميًا للقضاء عليها وإنقاذ أميركا والعالم من موتٍ محدق بهما.

هذا سابقٌ لـ"الثلاثاء الأسود"، ولاحقٌ له. الاختلاف حاصلٌ في موضعٍ آخر: الاعتداء بحدّ ذاته يُحرِّض على تحقيق مشاريع تُفكِّك شيئًا من المخفيّ فيه. الوقت يمرّ. لكن حجم المصيبة محتاج إلى هدوء يُعين على فهم شيءٍ من الحدث/ الجريمة، وعلى التنقيب الجذري والعميق والمكثّف عن الخفايا. المفارقة الأبرز كامنةٌ في أن أول إنتاج سينمائيّ متميّز بفضائه الدرامي ـ الجمالي ـ الفني متأتٍ من فرنسا، التي لن تتردّد الصحيفة اليومية الفرنسية "لو موند" في إطلاق صرخةٍ لها صدى قوي، غداة الجريمة: "كلنا أميركيون". فرنسا ستكون المُبادِرة إلى تحقيق مشروع سيكون، بشكلٍ أو بآخر، "تأسيسًا" لنوع سينمائي جديد يستلهم الجريمة بمستوياتها كلّها، ويتابع تراكماتها وآثارها ومساراتها وأفعالها وأحداثًا لاحقة لها وناتجة منها، بأساليب مختلفة.

فبعد عام واحد فقط، يُقرِّر المنتج الفرنسي آلان بريغان تحقيق فيلمٍ جماعي بعنوان "11/ 9"، يُشارك فيه 11 مخرجًا من 11 دولة، يُنجز كلّ واحد منهم فيلمًا قصيرًا مدّته 11 دقيقة و9 ثوان ولقطة (11/ 9/ 01، تاريخ الاعتداء الإرهابي)، بينهم عربيّ واحد هو المصري يوسف شاهين.

اللاحق كثيرٌ ومتنوّع، فالأحداث المقبلة بعد الجريمة كثيرة ومتنوّعة أصلاً. أفلام روائية ووثائقية، أميركية وأوروبية، تحاول رصد الحدث ومتابعته. التنقيب في سِيَر القتلة جزءٌ من عمل سينمائيّ، كـ"خلية هامبورغ" (2004) للإنكليزية أنتونيا بيرد. طرح أسئلة الهوية والانتماء والعلاقات القائمة بين الناس والمتأثّرة بالاعتداء الإرهابي جزء آخر، كـ"بذور الشكّ" (2005) للألماني المصري سمير نصر. الأميركيون أغزر وأسرع. التنويع كبير، وبعض نتاجاته "وطنيّ" يطغى الحسّ الإنساني فيه على السينما، كـ"المركز الدولي للتجارة" (2006) لأوليفر ستون. لكن بعضه الأغلب يُساجِل وينتقد بحدّة أحوال البلد وإدارته السياسية وقيادته العسكرية. أفلام الحرب العراقية الثانية مثلاً تبيّن مُصاب الفرد بلغة تمزج بين الوطنيّ والنقديّ، لكنها غير متمكّنة من بلوغ جمالية السجال السينمائي العميق والبديع، الخاصة بأفلام "حرب فيتنام". مع هذا، فإن عناوين مختلفة تخرج من "الوطني" إلى أسئلة تتعلّق بالداخل الأميركي وأزماته وخرابه وارتباكاته.

احتفال يوم أمس بالذكرى الـ17 لـ"الثلاثاء (الأميركي) الأسود" محطة لمزيدٍ من التأمّل في ابتكارات السينما وإنجازاتها، والتأمّل هذا محتاجٌ إلى مشاهدات تؤكّد أن أكثر الذين يُساجلون الإدارة الأميركية (بخصوص الاعتداء كما بخصوص أمور أميركية كثيرة أخرى)، وينتقدونها ويهاجمونها ويُفكّكون أحوالها ويقرأون حكاياتها هم سينمائيون أميركيون. الفيلم القصير لشون بن، المُنجز ضمن "11/ 9" الجماعي، تأكيدٌ على ذلك: تحميل الرأسمالية والاستعلاء الأميركي مسؤولية خراب حاصل في الاجتماع الأميركي، والضربة القاضية على رمز الرأسمالية تلك (برجا "المركز الدولي للتجارة") مدخلٌ إلى مصالحة ما بين مهمّشين وفقراء ومنبوذين، وبين بلدهم.
المساهمون