150 سنة على رحيله: غالب وفن المحاورة

10 مايو 2019
(صورة لغالب في منزله بدلهي، تصوير: كايلان شاكرافورتي)
+ الخط -

يصادف هذا العام الذكرى المائة والخمسين على رحيل غالب (1797 - 1869). لم يصدأ شعره مع الزمن، بخلاف خناجر الملوك المحفوظة في متاحف التاريخ. ما زالت سطوره قادرة على أن تحرّك دم الإنسان من دون إراقته، ففي نهاية الأمر، لطالما وزن غالب الدم بالدموع.

يختار غالب مقطعاً من قصيدة مير تقي مير: "حين لا تسقط الدموع، لا يتحرك الدم" فيجعله أكثر بلاغة وخلوداً في قصيدة أخرى تبدأ بـ"سألت نفسي عمّا حدث لك وما لم يحدث". كان هذا تماشياً مع أحد تقاليد الشعر الأُردي، حيث يأخذ الشاعر سطراً أو مقطعاً لمعلّم قديم ويقلبه ليعطيه معنى جديداً. وقد أعجب هذا التقليد الكثيرين، خاصة الشاعر الكشميري آغا شهيد علي، الذي استخدمه في غزلياته التي كتبها بالإنكليزية، فلعب في مقاطع من قصائد لـ راينر ماريا ريلكه، ويانيس ريتسوس، وتي. إس. إليوت، وفايز أحمد فايز وآخرين.

ثمة أسلوب آخر ضمن هذا التقليد الاستعاري، وهو ما يسمى "هام-رديف غزل"، ويتضمّن أن يكون المقطع الجديد من نفس "الرديف"، أي أنه نمط مكرّر من الكلمات والريتم. مثال شهير على ذلك الغزلُ الذي كتبه غالب على مقطع لأمير مياناي، (وهو شاعر معاصر لغالب من لاكناو، لكنه كان أصغر منه عمراً) فبنى عليه قصيدة "هام-رديف غزل" تنتهي بنفس المفردة وتأخذ ذات الريتم. لاحقاً قام كل من جاجيت سينغ وتشيترا سينغ بدمج النصين معاً وغنّيا معاً هذا الغزل.

بدلاً من المراجع والتفسيرات التقليدية الموجودة بكثرة حول شعر غالب، أودّ أن أفكر في احتمال بأن شخصية مثل غالب ونظامه الشعري تخلّقتا في الوسط الثقافي والجمالي للهند. لقد رأينا بالفعل كيف شمل دور غالب كشاعر باللغة الأُردية ترجمة لفكرة الشعر الذي سبقه، بقدر ما كان في حوار أيضاً مع معاصريه.

إن تنويع غالب الرائع لفكرة مير تقي مير حول الدم المليء بالدموع والبكاء دماً، إنما هو شكل من الانتماء إلى تقليد الشعر، وبالتقاط غالب لمقطع مياناي وتحويله إلى غزل آخر فهو يجدّد في التقليد نفسه، فقد كان فعل الترجمة والحوار جزءاً من تاريخ وتجديد الشعر الأُردي. لكن يمكن أخذ هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك.

في قصة معروفة عن غالب، يُقال إنه سُئل من قبل ضابط بريطاني، حين قبض عليه بينما يلعب القمار، "هل أنت مسلم"؟ سؤال أجاب عنه الشاعر قائلاً: "نصفي فقط مسلم". كثيراً ما يجري تفسير هذا التأكيد الجزئي على هويته الإسلامية، بعاداته في الشرب. فكان ملاماً بلا أي تسامح مع طبيعته الشعرية المتهتكة.

لكن هذه الفكرة في أن غالب نصف مسلم، تفتح أيضاً على احتمال أكثر إثارة وهو أن غالب نصف كافر. هو الذي طالما أشار إلى المحبوب ووصفه بأنه كافر، كنوع من التحبب. "لا فرق في الحب بين الموت والحياة، حياتي تطوف حول الشخص نفسه، الكافر الذي أنا على استعداد لأن أموت لأجله"، لكنه لم يكن دائماً كريماً في استخدام وصف الكافر، فيستخدمها في مقطع آخر: "لم التشكّي من ضيق قلبك، بالطبع يضيق هذا القلب الكافر ويضطرب"، مشيراً إلى بؤس النفس الوثنية وضيقها.

من الواضح، أن يكون المرء كافراً فهو ليس فقط جزءاً من مخيلة غالب الشعرية، بل إنه جزء من نمط وُجوده الثقافي، غالب بنصفيه الكافر والمسلم يفتح لحظة محددة، ليس فقط في تاريخ الشعر الأُردي بل في التاريخ الثقافي للهند. فكلنا بطريقة أو أخرى، لسنا هندوساً تماماً ولا مسلمين تماماً. ومن المستحيل أن تكون كذلك، لا لغة ولا ثقافة.

هذا يقودني إلى مسألة التحوّل من دين إلى آخر. أود أن أقترح أنه، وبصرف النظر عن الشكل الفعلي للتحوّل الديني، هناك أشكال ثقافية أخرى للتحوّل تحدث في حياة الهنود الذين لا يحتاجون إلى تغيير في الإيمان، لأننا لا ننتمي ثقافياً إلى دين واحد فقط. عندما ترجم دارا شكوه الأوبينشاد (أحد كتب الديانة الهندوسية) من السنسكريتية إلى الفارسية، أصبح من الأمثلة الأولى لما أطلق عليه سلمان رشدي لاحقاً تعبير "المحمولون".

إن فعل الترجمة هو أيضاً عملية تحوّل إلى لغة وحساسية أخرى. وكما يشرح رشدي في "أوطان الخيال" (كتاب صدر عام 1991) فإن كلمة الترجمة (Translation) تأتي في الأصل من اللغة اللاتينية، وتعني أن تحمل شيئاً لتعبر به، وفقاً لرشدي "بما أننا حُمِلنا في جميع أنحاء العالم، فنحن المحمولون. ومن المفترض عادة أن يضيع شيء ما في رحلة الحمل والعبور هذه؛ غير أني متمسك وبعناد بأن شيئاً ما يُكتسب أيضاً".

بهذا المعنى، من حَمل المرء لنفسه من لغة إلى لغة، من معتقد إلى آخر، من فكرة إلى فكرة، فإنه يُحمل/ يعبر/ يترجم، وإن شئت يتحوَّل إلى شيء أكثر من نفسه، وربما شيء آخر غير نفسه.

جميع الهندوس، بهذا المعنى هم جزء من المسلمين، وجميع المسلمين جزء من الهندوس. وإنكار ذلك هو خلق لذات منقوصة منقطعة ومشرّدة عن تاريخها الثقافي وإمكانية أن تكون الاثنين في وقت واحد، حاملاً عابراً دائماً لذاتك بحيث تكونها من خلال أن تكون الآخر أيضاً بينما تفعل ذلك. هذا الإنكار هو مسار الكثير من العنف والانقسام في المجتمع الهندي. يجب أن نتعلّم من المترجمين المعلّمين، مثل دارا شِكوه وغالب، نتعلم من نحن.

ما لم يكن يعجب سلطان المغول أوركزيب في شقيقه دارا شكوه (كان دارا شكوه مهتماً بالثقافة ومترجماً من الهندية والسنسكريتية إلى الفارسية، وقد قتله أوركزيب لاحقاً في نزاع على الحكم)، هذه الرغبة في التحرّك من لسان إلى لسان، سعياً إلى الإله، سعياً إلى اللغة، من خلال الترجمة/ العبور.

في مقدمة لبرنامج جاجيت سينغ حول غالب، قالت الشاعرة الراحلة نيدا فاضلي: "لقد طرح غالب أسئلة الدين والحياة والمجتمع والذات".

وطرح الأسئلة هو فعلياً شكل من مغادرة البيت - بيت الرضا الذاتي الأحمق، بيت عبادة النفس كوثن - لكي تكون في العالم. نحن جميعاً نعتنق شعر غالب، وبفعل ذلك، نحن أيضاً نصنع خيراً بأنفسنا بطرح أسئلة عنها، وعن الدين، والحالة الراهنة لمجتمعنا والعالم. كانت أسئلة غالب مليئة بالمفارقات والسخرية والتعجب. وهذا مظهر شعري مهيمن ظلّ معي كمعجب بقصائده، ووجد مكانه في هذه القصيدة التي كتبتها وأقدمها هنا كتحية:

لم يعد ذلك زقاق من متع لا تنتهي،
لم يعد من اثنين يماطلان في لعبة النرد،
لم تعد القدم تتوقف
وتقود الفكرة إلى البيت،
لم يعد من إلهام يحوّل الكلمات إلى طائرات ورقية.

باليماران1 ليس إلا مجرى مزدحم
من الأحذية المعلقة للبيع.

ليس في المشهد صوتُ حوافر
ولا مرأى عربة البالانكوين2،
ألوان المداسات
وزمامير السيارات
علامة على صحة المواطن.

أسأل رجلاً: "أين الطريق إلى بيت غالب؟"،
يرفع حاجبيه "لماذا لم تسأله عن العنوان؟
الاسم وحده لا يكفي".

أذهب في طريقي وأقول لغالب:
"اسمك ضيّع عنوانه،
أهكذا يربح الإنسان العالم؟"

الحارس في زيه الأزرق أسمك من حجر،
يدخلني إلى الفناء القديم والمرمّم

أُحدق في هذا التزوير
المصنوع لاستغفال الأطفال،
ليس من السهل أن تخفي الغياب المهمل لأحدهم.

كشك الهاتف ناشز،
مفارقة ساخرة للمتصلين في عجلة مبتذلة،
لا أحد ينحت جملة كالأزمنة القديمة، ساعياً بها إلى الكمال.

أتأمل، لم يعد هناك من يحسب النعم بالنبيذ،
لا أحد يمارس العصيان متهكماً،
لا أحد يضفر الليل بالأشعار.

وبينما يغرق الضوء،
تنجرف فتاة في قراءة معضلات قلب غالب
يشتت الآذان عينيها المغمضتين،
تغادر طاوية سراً في ثوبها الدوباتا3

حان وقت الذهاب إلى المنزل. حان الوقت
لترك ما تبقى من غالب في قاسم جان.
ولترك ما تبقى من قاسم جان في باليماران.

أسماء من زمن كان الهواء فيه يتنفس أبياتاً.
وكان المقطع الصغير
أثقل من زوج من الأحذية.


* شاعر وكاتب هندي، وصاحب المجموعة الشعرية "ضريح غالب"

** ترجمة عن الإنكليزية نوال العلي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1 باليماران: اسم الشارع الذي كان يسكنه غالب في حي "قاسم جان" وتحول اليوم إلى شارع شعبي يغص بمتاجر بيع الأحذية
2 البالانكوين: وسيلة نقل تقليدية أثناء عصر المغول في الهند، كان يحملها أربعة رجال على أكتافهم
3 الدوباتا: ثوب تقليدي ترتديه المرأة الهندية ويتكون من ثوب قصير وبنطال وشال

 

المساهمون